الاثنين، 1 سبتمبر 2008

" يالا الهول ... يالا الهول "


" ماهي عاصمة جمهورية مصر العربية ؟؟ القاهرة ، الاسكندرية ، طنطا ؟؟ " اتصل بنا ، جاوب علي سؤالنا السهل ، لتفوز بجائزتنا اليومية ، مبلغ مالي ضخم ، لن تفلح ابدا في الحصول عليه الا اذا فزت معنا في هذه المسابقة !!! ولان السؤال سهل جدا ، والمبلغ المالي المعروض كجائزة لهذا السؤال التافه ضخم جدا و لن نحصل عليه بسهوله ويسر بل ربما لن نحصل عليه ابدا الا اذا فزنا في هذه المسابقة او أي مسابقة اخري ، فأننا سنتصل ونتصل ونتصل علي امل الفوز،واذا لم نفوز في مسابقة اليوم ، فأن غدا لناظره قريب وسؤاله اسهل "اين تقع اهرامات الجيزة ؟؟ في القاهرة ، في الجيزة ، في اسوان ؟؟!!! سنتصل ونتصل علي امل الفوز ولانفوز ، واذا لم نفوز في مسابقة الاهرامات سنحاول الاتصال بمسابقة اخري " ماهو عدد ايام الاسبوع ، فكر ، يوجد ثلاث اختيارات 8 ، 7 ، 9 ، فكر واتصل " ولان المسابقة سهله والاجابة اسهل ، سنتصل ونتصل ، لعل وعسي !!! لكننا ايضا لانفوز ، لذا سنحاول ثانية ، لن نفقد الامل ولن نسمح لليأس بالتسلل الي نفوسنا ولن نسمح للحلم بالضياع منا ، فكل غد له غد افضل منه ، لذا سنتصل ونتصل ونتصل !!!
ولان قنوات التلفزيون والراديو في جميع برامجهم ومحطاتهم الارضية والفضائية يحاصرونا في جميع الاوقات بالاحلام المستحيلة ويقدموها لنا هديه من السماء علي طبق من فضه ، ويهيئوا لنا فرصه الحصول عليها واقتنائها والتمتع بها بشرط ان نتصل ، فنحن وبمنتهي الجديه والاخلاص والدأب والاصرار والحرص علي تحقيق تلك الاحلام المستحيلة نتصل ونتصل !!! عفوا من قال انها احلام مستحيلة ، انها احلام ممكنه وممكنه ، احلام عادية !! المهم نتصل!!! لذا سنتصل ونتصل !!
ولان المسابقات كثيرة وجوائزها ضخمه مغرية واسئلتها سهله تافهه معروفه ولا تحتاج منا للاجابه عليها جهدا خاصا او ثقافه عميقة او علم متميز فأننا سنتصل ونتصل ، بل وسننظم وقتنا ما بين المسابقات حتي لاتفوت علينا فرصه ولايضيع منا حلم ، ربما نفوز بجميع جوائزها " ومافيش حاجه كتيرة علي ربنا " ..
اليوم سنتصل وسنحصل علي المبلغ المالي الضخم ، وغدا سنتصل و ستفتح لنا مغاره علي بابا ونحصل علي كنوزها " دهب مرجان ياقوت احمدك يارب " وبعد غد سنتصل ويسعدنا الحظ " قوي " ونفوز بالشالية "نصيف" فيه وبالبيت " نشتي " فيه !! اما بقيه ايام الشهر الكريم فسنتصل ونتصل بكل القنوات بكل البرامج ونجيب علي اسئلة كل المسابقات وسيسعدنا الحظ اكثر واكثر ونحصل علي جميع الجوائز " شبكه دهب !! خاتم ماسي !! صينيه كنافه بالقشطة وسخنه كمان !! ، فستان العيد ، فستان الفرح ، تذكرتين سينما حفله منتصف الليل " وقد يسعدنا الحظ اكثر واكثر فنفوز بوجبة سحور مع نجمي المحبوب او وجبه فطار مع فنانتي الجميلة .. ...
لقد حلمنا وحلمنا واتصلنا واتصلنا وتحققت كل احلامنا في الخيال والوهم الا السيارة الفاخرة مازالت حلما جميلا بعيدا لايحققه الاتصال !!! لكن يحققه كرت الشحن ، لذا اشحن الان لتفوز بالسيارة ، واذا لم تفوز ، اشحن ثانية ، واذا لم تفوز اشحن للمرة الثالثة او العاشرة او الالف ، الا تساوي السيارة الفاخره الثمن البخس لالف كرت شحن؟؟؟؟!!! لذا اشحن الان واحلم بالحصول علي السيارة الفاخره التي يتجاوز ثمنها الباهظ مدخرات سنوات طويله من الجهد المضني لم يعد هناك مبرر لبذله ، ففرصتك معنا متاحه وقوية وممكنه !!!
وفي النهايه وبعد الفوز في جميع المسابقات والحصول علي كل الكنوز ، واقتناء كل الخيرات ، لايبقي لنا الا شكر الله تعالي علي نعمه التي فاض بها علينا ، لذا سنتصل ونتصل بالبرامج التي تمنحنا جائزة الجوائز " عمرة رمضان " او " الحج الفاخر السريع " ونتصل ثانيه وثالثا وعاشرا ، انه الفوز العظيم الذي يبذل من اجله الغالي والنفيس و" مليون مكالمة " !!!!
هكذا يقضي الملايين من مواطنينا - الفقراء محدودي الدخل المحبطين بسبب الغلاء والبطاله والفقر الذي يحاصرهم ويمنعهم من ممارسه حياتهم الطبيعيه البيسطة - وقتهم في شهر رمضان الكريم خاضعين للاوامر التلفزيونية منصاعين للتوجيهات الاذاعية التي تحاصر نفسياتهم الهشة وتروادهم بتحقيق الاحلام المستحيلة التي تفوق قدراتهم وكل امنياتهم ودعواتهم المستجابة ، مواطنين لايفعلون شيئا طوال الوقت الا التفكير في هذه الكنوز وكيفيه الفوز بها ، مواطنون لايتوقفون عن الاتصال بالقنوات التلفزيونية والمحطات الاذاعيه في أي وقت ، ليلا ونهارا ، من كل مكان في الجمهورية حتي المحافظات النائية واصغر القري علي خريطه الوطن ، مواطنين يحملون انفسهم – الي جانب اعباء حياتهم اليومية ومشاكلها والتوتر الناجم عنها - عبء الاتصال المستمر بالبرامج وعبء ثمن دقائق المكالمات التليفونية المتلاحقة ، سواء من تليفوناتهم الارضية او المحموله او حتي من سنترالات القري المهجورة التي لم تصلها بعد شبكات التقوية يحاولون ويحاولون اقتناص فرصه الفوز المستحيل !! مواطنين يدمنون الاتصال التليفوني المستمر يبددون به جزء كبير من مواردهم المحدوده التي تصب في نهايه الشهر الكريم ملايين الملايين من الجنيهات في جيوب شركات التليفونات بجميع انواعها ارضي ومحمول المستفيد الاول من بيع الاحلام وبيع الاوهام " اتصل فورا ، جائزتك مضمونه ، فرصتك كبيرة ، اتصل ولا تتردد !!!! " مواطنون يعيشون توتر الاتصال وتوتر الانتظار وتوتر احتمال الفوز وتوتر ضياع الفرصة ويدمنون معه الحلم والامل والتمني والرجاء ، مواطنون بسطاء اذا فاز احدهم وظهر امامنا علي الشاشه مبتسما مرتبكا او سمعنا صوت صرخاته الفرحه في الراديو ، تسارعت دقات قلوب كل منهم باعتباره الفائز القادم والتصقت اصابعهم اكثر واكثر علي عدد التليفون وتوالت اتصالاتهم عشرة بدل واحده و الف بدل مائه ، فالفوز قريب والفرصه ممكنه وياكريم يارب !!!
وهكذا انشغل المجتمع ومواطنيه في هذا اللغو الفارغ بديلا عن القيم الجادة المحترمة كضرورة العمل وبذل الجهد فيه والاخلاص في التعلم والتفاني في العطاء و" طريق الالف ميل يبدأ بخطوة " باعتبارها قيم بالية عفا عليها زمن الاتصالات وزمن الفوز بالجوائز العظيمة ، قيم عتيقة لا تحقق احلاما ولاتغني او تشبع من جوع في زمن "العولمة وكونلدليزارايس " وبرامج " التوك شو " قيم لااهمية لها ولا ضرورة للتمسك بها او الدفاع عنها او ترويجها ، قيم ذابت تلاشت في طوفان التفاهة والامال الكاذبة ، تلاشت ومعها خلاصه خبرة الشعوب وتجاربها العظيمه متمثله في امثالها الشعبية الصادقة " الحداية مابتحدفش كتاكيت!!! " و" السما مابتمطرش ارغفة وفراخ مكتفة" تلك الامثلة الي صاغها العقل الواعي للامة ساخرا من الكسالي الواهمين المنتظرين لهبة السماء بغير جهد منهم المتعلقين بحبال الوهم البالية و" بلاش دوشة بقي خلينا نركز في الاتصال والاشتراك في المسابقة !! "..
" يالا الهول " صيحة استنكار قالها يوسف وهبي في زمن بعيد متعجبا ورافضا مااعتبره في ذلك الوقت غرائب يشيب لها الولدان ، ماباله لو كان معنا في هذه الايام وشاهد مانشاهده وسمع ما نسمعه وحاصره مايحاصرنا من تفاهات وسخافات ماذا كان سيقول ؟؟؟ ما باله لو كان معنا في هذه الايام التي تحرض المواطنين علي الكسل والتراخي والتواكل والانتظار العبثي والامل الكاذب وعدم احترام قيمة العمل سبيلا وحيدا محترما لكسب الغنائم وتحقيق المكاسب المادية ماذا كان سيقول ؟؟؟ ماباله لو كان معنا هذه الايام التي نوزع فيها الجوائز علي المواطنين مكافأة لهم علي جهلهم وقلة ثقافتهم وانحطاط مستواهم التعليمي والعلمي ونجاحهم العبثي في الانتقاء العشوائي بين الاختيارات التافهه الثلاث ماذا كان سيقول؟؟؟ ماباله لو كان معنا واجهزة الاعلام لاهم لها الا مداعبة احلام الفقراء واستنفار طموحاتهم المحبطه واستنزاف قروشهم القليلة في الاتصال المستمر بارقام التليفونات التي تصل بهم لعنان السماء وتمنحهم – ولو وهما – كل احلامهم المستحيله البعيدة ؟؟ ماباله لو كان معنا وانصت الي ما يخرق اذاننا من بيع الاوهام وترويج الكسل وتسويق المحطات التلفزيونية والاذاعية لنفسها عن طريق ربط المشاهدين والمستمعين بها ليس لجديه برامجها او اهمية المعلومات التي تقدمها او تميز الدراما التي تعرضها بل عن طريق بيع احلام الفوز في المسابقات الغثه التي يختبروهم فيها ؟؟ ماباله لو كان معنا وسط جيوش العاطلين عن العمل وربات البيوت والاطفال المتسربين من التعليم الاجباري الذين لاهم طوال يومهم الا الاتصال والاتصال ثم الاتصال والاتصال محاولين اقتناص فرصة يعرفون جيدا ببقايا عقولهم الواعية انهم بعيدين عنها كل البعد ، لكن الامل في السراب يبقيهم علي درب الاتصالات المستمرة راكضين تجاه الوهم امامهم جزرة الامل وخلفهم عصا الواقع المرير !!!
انا لا الوم المواطنين الحالمين بالفوز المتمنين الكسب المتشوقين لاقتناص الاحلام المستحيلة لكني اشفق عليهم واحس الحسرة علي واقعهم المرير الذي يدفعهم للغرق في الغيبوبه العمدية التي تسعدهم ولو مؤقتا وتروح عنهم بعض الهم الذي يحاصرهم ولوبشكل لحظي .. لكني ادين وبشدة العقليات الاعلامية والخبرات التسويقية الفذة التي استخدمت كل امكانياتها العلمية - عن طريق اجهزة الاعلام الجبارة المسيطرة علي حياة المواطنين والمتمكنه من عقولهم ووقتهم - في مداعبة احلام البسطاء والتلويح لهم بالمستحيل ممكنا وهميا ، بل ادينهم اكثر لعدم اكتراثهم – هؤلاء الخبراء العظام - بالحاله المرزية التي ستلحق ولو بعد حين بالمواطنين البسطاء وتأسرهم اكثر واكثر في تيه الوهم واليأس والاحباط بعد اكتشافهم للحقيقة وبعد ادراكهم تبدد فرصهم في اقتطاف ثمار الاحلام الوهمية التي سعوا اليها وقت بقائهم في نهايه المطاف وبعد انتهاء جميع المسابقات خالين الوفاض دون الحصول علي أي جائزة او الفوز في أي مسابقة او اقتناء أي كنز !! وقتها سيتوقف المواطنين عن الاتصال ويغلقون التلفزيون ويحطمون الراديو ويزداد اكتئابهم وهمهم وغلبهم وانا معهم !!!
" يالا الهول " اصرخ استنكارا في الفضاء الخالي لايسمعني احد ، فضجيج وصخب الاتصالات التليفونية يطغي علي كل الاصوات ويعلو عليها ، اصرخ واصرخ ياعلماء الاجتماع المعنيين وبحق بأمور الناس واحوالهم ومعيشتهم وتقدمهم وتطورهم واحترامهم لذاتهم ، اين انتم من كل ما يحدث ؟؟؟؟ ياعلماء الطب النفسي المعنين بحق بصحه الناس ونفسياتهم وشفائهم من ايه امراض ووقايتهم من الاصابة بها ، اين انتم من كل ما يحدث ؟؟؟ يا كل من تهتمون بحال الوطن والمواطن اين انتم ؟؟ اين انتم ؟؟ ..
الاحد 16 اكتوبر 2005
( نشرت بالعدد رقم 54 من جريدة روز اليوسف اليومية بتاريخ 16/ 10/ 2005 )



ليست هناك تعليقات: