شاهدنا في الثمانينات - تلك الحقبة التي تكالب فيها المصريين علي السفر للخارج بحثا عن عمل مربح يحقق احلامهم المستعصيه عليهم نتيجة الظروف الاقتصاديه الطاحنه التي يعيشها الوطن - الفيلم السينمائي الجميل الموجع " سكة سفر " يحكي عن ذلك الشاب المصري – ولعب دوره باقتدار ومهاره وتميز الفنان الكبير نور الشريف - الذي سافر للعمل بعيدا عن قريته النائية الفقيرة واستمرت غيبته سنوات طويلة عاد بعدها لبلدته في منتصف الليل بضجة وزهو المنتصرين ، يرتدي "برنيطة " ويشرب سجائر اجنبي ومعه كاسيت ومروحة وحقائب ثقيله سيلت لعاب ابناء قريته المحرومين ، يحمل في حافظته عشرات الورقات المالية ذات المائه جنيه وسط اناس مطحونين لايملك اي منهم الا جنيهات قليلة لاتسد جوعهم ولاتلبي احتياجاتهم البسيطة بل ويتحصلون عليها بمشقه وصعوبة ومعاناة مستمرة لاتنتهي ، فاذا بالعائد من "سكة السفر" يصبح نموذجا ومثلا وقدوة تشخص اليه ابصار ابناء القرية جميعهم يتمنون الاحتذاء به والسفر مثله والعودة مثله " بالبرنيطة " وكنوز الغربة !!! لكن بشير الديك وبادراكه العميق بالواقع المرير الذي نعيشه لم يترك بطله نموذجا ناجحا وقدوة تغوي الاخرين للاقتداء بها ، حيث كشف في نهايه الفيلم سره فرأينا البطل – بعد ان ضاعت نقوده - مهزوما منكسرا يبكي بكاءا مريرا يرتسم علي وجه القهر وهو يقص علي امه مالاقاه في غربته من اهوال و مالحقه من ذل واهانه طوال تلك السنوات الطويله التي عاش فيها في ظروف طاحنه غير ادمية وعمل في اعمال منحطة حقيرة ادمت قلبه وكسرت نفسه تحملها جميعا من اجل النقود التي ضاعت فضاع معها !! وانهي بشير الديك فيلمه وتركنا نبكي علي بطله وعلي انفسنا ، نبكي علي مالحقه ولحقنا من هوان ومذلة !! نبكي علي وطننا العزيز الذي طرد ابناءه المخلصين واغلق في وجووههم سبل العيش الكريم فسافروا سنوات طويلة ثم عادوا بعدها ومعهم الهدايا الرخيصه التي دفعوا ثمنها غاليا سنوات مريرة من عمرهم ، عادوا اثرياء دون كرامة يحملون في قلوبهم العليلة ذكريات سوداء لايام عاشوها في الغربة يقتاتون المهانه والذل وكسر النفس وانحناء الجبين !!!
لماذا تذكرت فيلم " سكة سفر " ؟؟ ربما لان احد اصدقائي وفي هذه الايام بالذات يستعد للعودة من البلاد البعيدة هاربا من مرارتها فارا من هوانها لاحضان الوطن !!! واذا كان سفره قد اوجعني فأن عودته السريعة مهزوما منكسرا قد اوجعتني اكثر ، كنت اتمني ان ينتصر علي افكاري لكنه اكدها فحزنت عليه اكثر !!! فعندما ودعنا في "عز الصيف " مدعيا – احراجا وتوترا - انه سيقضي اجازته خارج البلاد لزيارة شقيقه مؤكدا علينا انها مجرد زياره لن تطول وانه سيعود سريعا صدقناه وودعناه وداعا فاترا لم يعبر عن مشاعرنا الحقيقية تجاهه ولماذا نفعل وهو في اجازة قصيرة وسيعود !! وعندما طالت غيبته صمت ولم يتصل بنا فضحكنا علي انفسنا وقررنا ان الاجازة طالت وانه خجل من "استهباله" وعندما اتصل بي تليفونيا واخبرني بنبرات صوته الحيادية المصطنعه انه سافر للعمل وانه سيبقي هناك ولن يعود قريبا رددت عليه بجفاف بارد وخز قلبه وادعيت انني اتمني له التوفيق واغلقت الخط !!! صمتُ برهة ثم انتبهت سريعا الي رسالته ومضمون حديثه ، لقد هزمتني مدن الملح وسرقت من مؤسستي المهنية فردا عزيزا من اسرتنا ، شاب دخل علينا - من سنوات طويلة - خجل يتلعثم في كلماته المرتبكة لايعرف عن القانون الا الملازم التي نصحه زملائه في الجامعه بقراءتها استعدادا للامتحان مشطوبا منها صفحات كثيرة لم يكفي وقت العام الجامعي لدراستها ، شاب دخل علينا يبحث عن مجرد فرصة عمل مؤقته " سنتين تدريب" فوجد أسرة افسحت له مكانا وسطها وفتحت له قلبها حبا وشاركته عقلها وعلمها وخبراتها الحياتيه والمهنية ليبقي فيها سنوات سبع يبني مع كل افرادها مؤسسة تكبر بهم ومعهم ويكبرون بها ومعها ، لكن زميلنا تركنا وفر من احضاننا وسافر للعمل المهين – في غير تخصصه وبعيدا عن خبرته - في البلاد البعيدة بعد ان اغوته سكه السفر وكنوزها وهداياها الرخيصه ، سافر باحثا عن المجد والثروة رافضا صعود سلم الحياة معنا خطوة خطوة ، رافضا ان يوزع احلامه علي ايام عمره فيستمتع بها وبنجاحه في الوصول اليها ، سافرا متعجلا وكأنه سيموت من الظمأ فاذ به يرمي بنفسه في يم الغربه يشرب من ماءها المالح لا يرويه ابدا !!!.. وقتها اشفقت عليه من اختياراته القاسية وحزنت علي ايام شبابه الغاليه التي قايضها بثمن بخس وعز علي فراقه منتحرا في البلاد البعيدة ، فطلبته ورجوته العودة ومنحته مشاعري الصادقة كاما واختا وصديقة وفكرته بالكنز الحقيقي الذي فقده بسفره واننا "فقراء لكن سعداء " وضحكت اذكره بالسعاده التي عشناها معا فبكي متذكرا الحزن الذي يعيشه وحده وحاصرته بالحاحي " ارجع ، والبلد دي احسن من غيرها" لكنه رفض الاصغاء لي واغلق قلبه في وجه ندائي ورجاني ان اتركه وكوابيسه يعيشها ويروض نفسه عليها وأكد لي - كأنه يطمئني - بأنه بائس ووحيد وحزين ويفتقدنا جداجدا لكنه ورغم كل الآلم التي تعتصر قلبه سيبقي ليكنز المال ويعود رافعا رايات الثراء عاليا و"ووحشتوني جدا " ...
ورغم كل ادعاءاته وكذبه عاش صديقي في غربته مكتئبا يحلم بالعودة للوطن ومعه زكائب العملات الذهبية تعوضه عن سنوات الحرمان التي سيعيشها وايام الاهانه التي مضغ مرارتها وليالي الوحدة التي " كبست " علي قلبه ، عاش في غربته وحيدا منكمشا يحلم بالونس ولا يعثر عليه ولاحتي في احلامه فأدمن الغرق داخل نفسه يصادقها ويتحمل لومها لهروبه من البشر الذين يحبهم للبشر الذين لايحبهم !!! عاش يعاني وجع الوحدة والموت الاختياري الذي انتقاه لنفسه سما زعافا يتصوره ترياقا يشفيه من مشاكل فقراء الوطن وينقله لمراتب الاغنياء المحدثين للنعمة هؤلاء الذين اشتروا ثرائهم الاستهلاكي بعرق جبينهم المنكسر طوال سنوات الغربه ...
لكني ورغم فوات الايام والشهور– وياللعجب - لم ايأس من عودته الينا كارها العيش المهين رافضا للعمل في غير تخصصه محترما خبرته التي اهدرها مشتاقا الي وطنه والينا ، ، لم ايأس من عودته لشوارعنا الضيقة المكتظة بناسها " الجمال " كارها " للمولات " والخيم البلاستيكية المودرن ، لم ايأس من عودته نادما علي مافعله في نفسه وقت غيب ارادته واستجاب لل" نداهة " التي تخطف خيرة شباب الوطن وتوقعهم في شباكها وتذل رجولتهم وتهد حيلهم وتفرض عليهم العيش في الصحاري والفيافي بعيدا عن وادي نيلهم الخصب الاخضر الجميل !!!
لم ايأس من عودة صديقي لحضن الوطن مقتنعه ان بلادنا هي اجمل بلاد الارض مع كل مشاكلها الصعبه وان شعبها اطيب شعوب الارض رغم توتره وغضبه وان رزقها فياض علي المجتهدين والجادين ولو تأخر وان شمسها هي الاحن علينا جميعا ولو توارت خلف غيوم سوداء تخدع ابناء الوطن وتصور لهم المستقبل كئيبا ، فالغيوم السوداء التي تظلل سماءنا ستنقشع ستنقشع بعرقنا وجهدنا وجديتنا ومنتهي حبنا وبقاءنا في الوطن !!
لم ايأس من عودة صديقي لاني اعرفه شأن كل المصريين محبا للوادي الاخضر كارها للصحرا الصفراء الجرداء ولو اقيمت عليها القصور وزينت بالورود البلاستيكية الملونة ، لاني اعرفه شأن كل المصريين الذي يعتزون بكرامتهم ولايقبلون التفريط فيها ولو بالثمن الغالي !!!
وهاهو سيعود ، يلملم اوراقه ويعد القروش الباقيه في جيبه بعد ثمن التذكرة والهدايا ، يؤكد لي بصوت مرح "ملعون ابو الغربه وفلوسها وعمار يامصر !!!!"
الجملة الاخيرة – قالوا " اللي معاه قرش يساوي قرش " فهرب الناس من الوطن المأزوم يبحثون عن القرش فرخص ثمنهم وضاعت كرامتهم ولم تمنحهم ثرواتهم المشتراة بدموع القلب أي قيمة لا في وطنهم ولا في أي مكان اخر !!!!
السطر الاخير - قالوا " اللي بعيد عن العين بعيد عن القلب " لكن الباحثين عن الثروة لم يصغوا اليهم ، فتفككت الاسر وتشرد الاطفال وعاني المجتمع مشاكل نفسيه واجتماعيه رهيبة واسألوا علماء الاجتماع عن رأيهم!!
الكلمة الاخيرة - لامني صديق علي هذا المقال وقال لي " اكتبي عن العبارة " فأجبته " انا كتبت عن الناس اللي كانوا في العبارة !!!"
الاربعاء 8 فبراير 2006
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق