الأربعاء، 10 سبتمبر 2008

" سيدة اللوحة ... "


"فكي اسرك واهربي " هكذا همست للسيدة الجميلة التي زين الرسام العربي لوحته المزركشة بوجهها البريء واحاط رأسها بأطره الذهبية الملونه وحاصرها بريشته القوية معربا عن رغبته في اعتقالها رغم انفها في عالمه الخاص وفاذ بالحزن يقفز من عينيها والشجن يلون ملامح وجهها وتكاد تسمع انين بكاءها الما وهي قابعه في صدر اللوحة وقلبها مغلوبه علي امرها كأن وجهها رسم بنصل سكين حاد افصح به الرسام عن رغبته في اعتقالها حزينه في عالمه المزركش الملون الجميل لتأتي لوحته قاسية مليئة بالتناقض الفج بين شكل اللوحة والوانها القوية المبهجة وبين ملامح بطلة اللوحة والاحاسيس الكئيبة التي تنبعث من نظراتها تحاصر المشاهد للوحة بضيق عميق لايفهم علي وجه الدقه سببه !!! وقصه هذه السيدة الجميلة معي بدأت حين طرقت باب منزلي ذات يوم صديقة عزيزة تحمل بكلتا ذراعيها لوحة كبيرة ثقيلة ملفوفه بورق ابيض محايد لايعبر عن احتفال او فرحة ، فاذا ما فتحت لها بابي حتي منحتني تلك اللوحة قبل سلامها وقبلاتها واوضحت لي باسمة " من زمان نفسي اجيبلك هدية ، اول ماشفت اللوحة افتكرتك ، مبروكة عليكي " وقد جلست وصديقتي ساعات طويلة نتجاذب اطراف الحديث ونقتل مشاكلنا وهمومنا بحثا وقبل رحيلها بثوان وانا اودعها علي باب المنزل افصحت لي " الرسام اللي رسم اللوحة دي مشهور جدا وشاطر جدا ، والبنت اللي في اللوحة دي بطلته الوحيدة ، حبها وسابته من يجيي عشرين سنه ، عمره ما نسيها ، مارسمش غيرها !! " وغادرتني ولوحتها "ملفوفة " في ورقها الابيض العليل " مركونة " علي الحائط ورحلت !! ورغم القصه الشيقة التي قصتها علي صديقتي تحكي تاريخ الرسام واللوحة تحرضني بها للانقضاض علي الورق الابيض وتمزيقه وتأمل اللوحة التي رسمها رجل احتله الالم بسبب هجر الحبيبة الا ان مشاغلي وخلافا للعادة اخذتني من صديقتي ولوحتها التي بقيت في مكانها اياما وايام جرفتني بعيدا عنها متاعب الحياة فظللت خلافا لعادتي لا اعرف شكلها ولا الوانها كأنني نسيتها او تناسيتها !! وذات يوم استيقظت من نومي لاافكر الا في تلك اللوحة اكاد اجزم انني سمعت ندائها في احلامي تناشدني رفع الاسمال البيضاء عن وجهها ومنحها اعتناء بخلت به عليها وهي قابعه مكانها ايام وليالي مهجورة وحيدة محرومة من مجرد نظرة اهتمام او فضول !! فجلست بجوارها علي الارض ومزقت لفافة الورق الابيض التي تغلفها ليقع بصري علي لوحة زيتيه بديعة يزينها اللون الاخضر بجميع درجاته يتداخل فيه اللون الذهبي العتيق والبرتقالي المتوهج يحددوا بريشة رسام متمكن اطار مزركش داخل اطار ملون داخل اطار مبهج داخل اطار بديع يقودوك بسلاسة وتلقائية في طريق يدفعك لقلب اللوحة ليصدمك وجه شاحب لسيدة جميلة تحسها جامدة كأن المسامير قد دقت في اطرافها تثبتها مكانها تحسها تنتظر من لم يأتي ولن يأتي ترنو ببصرها للافق البعيد الرحيب التي اعتقلها الرسام الماهر بعيدا عنه داخل اطره المزركشة الملونة كأنها يعاقبها علي الفرار من احضانه فاذ به يقبض عليها ويبقيها رغم انفها في حضن اطاراته ليكسو الحزن وجهها ويحتل الاسي نفسها فتنظر اليك كأنها تناشدك مساعدتها ومد يد العون لها !! جلست علي الارض مكاني اتأمل اللوحة وبراعة الرسام المحب الجريح الذي طبع في ذاكرته وجه الحبيبة الفارة فرسمه في جميع لوحاته كأن ينتقم من هجرها باعتقالها في عالمه الملون الموحش ، جلست مكاني اتأمل السيدة التي اظنها تعيش حياة عادية في مكان ما تحيط بها الاطفال " الزنانة " وطلباتها المتلاحقة وهي لاتعرف ان الرسام الحبيب قد اعتقلها وقت هجرته في ذاكرته ونفسه ولوحاته وكأنه ينتقم منها وينتقم لنفسه فلايرسمها الا حزينه بائسة متمنيا ان تمتد مشاعره لتحتلها فتقتل نفسها عقابا لنفسها علي ترك حبيبها الذي لم تقدر حبه ولم تفهم مشاعره ولم تبقي بجانبه داخل اطره المزركشة المرفهه تمنحه حبها فيمنحها في لوحاته اشراقا حرمها منه عقابا لها علي الهجر والجحود !!! تأملت اللوحة اكثر وغصت في اعماق بحور الوانها الطاغية فانتبهت لان الرسام الموهوب لم يكتف بمنح بطلته شحوبا ويأسا ولم يكتف باعتقالها في اطره الملونة كئيبة حزينه ولم يكتف بدق مسامير المه في جسدها يثبها اسيرة في لحظة غضبه بل "طبق" باطره الملونه علي رأسها كأن اطار لوحته الداخلي الاخير الذي يحاصرها في حقيقته سكينا استأصل جزء من رأسها وحل محله فلم يكتفي الرسام بحصار بطلته وتلوين وجهها بالوان حزنه الدفين بل منح المشاهد لوجهها المتألم احساسا وكأن الدنيا "اطربقت " فوق رأسها ولم تترك لها فرصه الفكاك او الهرب !!! تأملت اللوحة اكثر وطفت ببصري علي اطرها الملونة المزركشة التي خدعني بها الرسام للوهله الاولي ومنحي احساسا مزيفا بالسعادة واحسسته يقول لي ولكل مشاهد ستقع عيناه علي تلك اللوحة ان عالمه الذي فرت منه الحبيبة عالم جميل ملون متأنق متألق وانها -وليست هو- الخاسرة بهجره وتركه وتخليها بالتخلي عنه وعن ذلك العالم المرفه الجميل!!! تأملت اللوحة اكثر فاجتاحني طوفان الحزن وامواجه العاتية المالحة واحسست اسي علي السيدة التي لا اعرفها حين فرت من احضان رجل شرقي عنيد لم يغفر لها ابدا هجرها له وعدم تقديرها لمشاعره وعدم تمسكها بحبه فاعتقلها للابد علي جميع الحوائط وامام الغرباء اسيرة لوحاته المزركشة وكادت الدموع تفر من عيني حزنا عليها فهمست لها "فكي اسرك واهربي " وتمنيت لو تسمعني وتترك لوحته وتفر منها وتتركها خاوية الا من اطلال اطره المزركشة !!! لكنها لم تقوي علي الفرار وبقيت في قلب اللوحة بين الاطر التي تحاصرها عاجزة عن الهروب وعن رفع الدنيا من فوق رأسها قليلة الحيلة كما اراد لها الرسام الجريح !!! بقيت اللوحة مكانها علي الارض شهورا لااعلقها علي الجدران رافضه مشاركة الرسام المحب مرثيات حزنه رافضه مشاركة الرجل العنيد طقوسه انتقامه من السيدة التي لااعرفها وفي ذات الوقت احس ذنبا تجاه صديقتي التي اهدتني اللوحة وذنبا اكبر تجاه السيدة التي منحتها بتعاطفي معها ودون قصد مكانا بين الاقدام العمياء التي تروح وتجي حولها لاتشعر بها ولاتتعاطف معها فكأنني شاركت الرسام القاسي حصاره لها وانتقامه منها .. وذات ليلة داهمتني الكوابيس الموجعة واحسست بطله اللوحة تغرق وتسحبني معها في المياة الباردة نشرب معا الملح المكرر ونتوجع من ذات الالام ، احسستها تقبض علي ذراعي كأنها تستنجد بي انقاذها لاتدرك قدر خيبتي وانا اغرق معها عاجزه عن انقاذ نفسي ، سمعت انينها متداخلا مع صوت الماء يحتل رئتينا ونحن نغوص لقاع الضياع كأنها تشكو لي من القدر الذي حاصرها واعجزها عن الشكوي ، رأيت وجهها الشاحب يزداد شحوبا ولون الغرق الاسود يلون قسمات ملامحها فازدادت كآبة واستيقظت من نومي اتصبب عرقا يدوي في اذني صوت نحيبها لحظتها قررت رفع اللوحة من الارض ومنحها مكان الصداره في جدران منزلي ومنحها تعاطف الاخرين مع احزانها حين يروها فوق الجدران اسيرة اللوحة الظالمة !!! وهكذا دخلت تلك السيدة حياتي بغير ارادتي وصارت صديقتي الجبرية امر عليها عشرات المرات في اليوم الواحد احييها اهون عليها اسرها اخفف عنها المها اودعها حين اغادر واقبلها حين اعود اقص عليها همومي واحكي قصتها للاخرين غضبا من الرجل الاناني الذي لم يقبل مشاعرها وتمسك بمشاعره وعاقبها علي توقف قلبها عن حبه واسرها في عالمه التي فرت منه وعرضها امام الغرباء عاريه الا من اطره القابضه علي روحها وروحي ، دخلت تلك السيدة حياتي بحزنها وشجنها والمها صماء لاتسمع همسي لها " فكي اسرك واهربي " !!! وذات يوم دخلت منزلي صديقة فرقت بيننا السنوات والمصاعب والهموم ، زارتني محمله بمئات القصص التي اختزنتها طيله سنوات البعد ، جلسنا نحتسي الشاي ونتبادل الحكايات وفجأ رفعت صديقتي رأسها ونظرت للوحة وخبطت علي صدرها فزعا " ياخبر اسود ، مين دي ، زي ماتكون الواحده بتبص في المراية " وقتها احسست السيدة المعلقه علي الجدران تبتسم ، اكاد اجزم انني رأيت بريق في عينيها ، اكاد اقسم انني رأيت خصله شعر طائرة فوق جبينها ، اؤكد لكم انني احسست الحياة تبد فيها وانها تكاد ترفع الاطر الضاغطه من فوق رأسها فوجودها فوق الجدران البارده اثمر عن رسالته الواضحة التي استقبلتها صديقتي " كل واحده فينا زي الست دي كده ، محبوسه في دنيا مش عاجباها ، الدنيا متكركبه فوق رأسها ، الحيطان طابقه علي نفسها " احسست الدفء يدب في اوصال السيدة المعتقله علي الجدران الباردة حين قاومت سجانها وهربت رغم انفه رسالتها المتمرده لكل النساء " فكي اسرك واهربي " ابتسمت لها فبادلتني الابتسامه الحانية ، سمعت صوتها ناعما يخرج من شفتيها المنفرجتين تردد علي اسماعي ندائي لها كأنها تخاطبني وصديقتي وكل النساء "فكي اسرك واهربي " تحذرنا من مصيرها الموجع وقدرها الرهيب !!! احسستها ورغم كل ما مرت فيه وتعرضت له ترسل بايجابية لكل النساء مثلها رسالة واضحة " فكي اسرك واهربي " ... نظرت بعمق للهدية التي منحتها لي صديقتي العزيزة وفهمت مغزاها الحقيقي فهي لم تقصد تعذبني باعتقال سيدة اللوحة بل فتحت لي بهديتها الابواب المغلقة وتركت سيدة اللوحة تهمس لنا جميعا "فكي اسرك واهربي " ... صديقتي العزيزة اشكرك علي هديتك الغالية !!! الفقرة الاخيرة – يحب المجتمع واناسه النساء بطريقتهم الخاصه التي لاتعجبني فالنساء لسن اطفالا يحتج لمن يمسك ايديهن ويعبر بهن الطريق ،وليسن معوقات عاجزات ناقصي قدرات يحتجن لمن يكمل النقص لديهن ، ولسن قليلات الحيلة حتي يتصور الجميع انهن يحتجن لرعايتهم وحمايتهم و" طابور سيدات " النساء مثل الرجال لديهن كل القدرات والامكانات والاحلام والاراده علي تحقيقها ، فكفاكم وصاية كريهه ليس لها أي معني حقيقي !!! الجملة الاخيرة – في مارس من كل عام نعيش احتفاليات النساء ، يوم المرأة العالمي 8 مارس ويوم المرأة المصرية 16 مارس وعيد الام 21 مارس ، وها انا هذا العام اشارك في تلك الاحتفالات بطريقتي الخاصه متمنية ان يأتي يوما جميلا تعيشه النساء بانطلاق وحرية وتحقق !!! السطر الاخير – قال لي احد الرجال " انتي شايفة اللوحة بطريقة متعسفة " شرحت له " انا حاسها كدة اكمل "انا مش شايف فيها اللي انتي شايفاه " ابتسمت ساخرة " طبعا " وصمتنا !!! الكلمة الاخيرة – كل سنه وكل مارس واحنا طيبين !!!

هناك تعليقان (2):

غير معرف يقول...

مش عارفة ليه يا أميرة مابقاش ليا نفس أهرب من الأسر!!
أصلى حاولت أهرب مرة منه بخيالى .. اكتشفت مليون أسر بيطاردونى
تخيلينى كده وأنا بجرى والأسر بيجرى ورايا!!!
الحرية حرية العقل والروح... وللأسف حتى دول بقى فيه محاولات لأسرهم.. أنا قلت محاولات يعنى مش لازم تنجح عشان ماتفتكرينيش يائسة:)ههههههههههههه

اميرة بهي الدين يقول...

نشرت هذه المقاله في الفيس بوك فجائتني هذه التعليقات

Rasha Ali wrote
at 5:07pm on February 20th, 2008
اميرة دي مش مقالة دي قصة قصيرة حلوة اوي
ميرسي ليكي خلتيني اتعاطف فعلا مع سيده اللوحة
وكويس ا مرمر ان انتي بتكلمي الاشياء زي خالاتي اصل انا كل يوم اشتم البراد واحب في الانتريه شويه والعب مع الدولاب وحكايات كتير تطول شرحها
بس اقولك سر في ودانك كده من غير ما حد يسمعنا
يا بختها سيدة اللوحة ديه مين فينا ما تتمناش تبقي بطلة لقلب فنان وما يشوفش غيرها في الدنيا

وكل مارس وانتي طيبة


Mona Abolnaga wrote
at 5:44pm on February 20th, 2008
تفتكرى يا مرمر العيب فى الرجل الشرقى ووصايته وتعسفه ولا فى المرأة الشرقية التى تبحث عن الوصاية واللى يستتها ويصرف عليها مش كل النساء انت ..أنت القله التى تؤكد القاعدة ان كثير من النساء يردن هذه الوصاية ويعتبرونها مقياس للرجولة


Amr Assaad wrote
at 6:08pm on February 20th, 2008
لقطة حلوة يا أميرة ومافتكرش فيها تعسف.. اللقطة حقيقية وبمكن لو في مكان للتعسف يبقى في الربط بالراجل الشرقي.. أفتكر أن دي حالة انسانية منتشرة بين كل الناس اللي مفتقدة للنضج في العلاقات سواء شرقيين أو غربيين ورجالة أو ستات


Manal Fahmy wrote
at 11:34pm on February 20th, 2008
صورة جميلة يا أميرة مشحونة بالمشاعر... ولكن فى الواقع أن صاحبة الصورة هربت والحبيس هو خيالها فى ذهن الفنان... أسير هذا الحب برغم من أن رأى فى الحب الحقيقى، إذا وجد، أنه يحرر النفوس والمشاعر.
أما عن وضع المرأة فى مجتمعاتنا فهى المسئولة عنه أولا وأخيرا...


Noha Essmat wrote
at 11:16am on June 19th, 2008
"فكى أسرك واهربى"
ماهو لو هربت ههرب من أسر لأسر... خلينى بقى فى البرواز والمتحف ...يمكن ابقى ساعتها أشهر من الموناليزا ويبقى اسمى النوهاليزا:)ههههههههههههه

متشكرة لانك خليتينى أعيد قراءتها زى حاجات كتير تانية:)