" الفيل ياملك الزمان " مسرحية كتبها المؤلف المسرحي السوري " سعد الله ونوس " منذ قرابه اربعين عاما تحكي عن جماعه من الناس تعيش في ظل حكم ملك يجلس علي كرسي عرشه بعيدا عن شعبه لايعرف عن مشاكلهم شيئا محاط بحاشية من المنافقين المنتفعين الذين يزينون له رغباته ويظهرون له كذبا وزورا ان شعبه يحبه ويدعو له بطول العمر وطول الحكم !!! واوضح " ونوس " في فصول مسرحيته كيف يعيش الناس تحت حكم ذلك الملك مقهورين بؤساء يعانون الامرين في حياتهم اليومية الشاقة عكسه هو الذي يعيش رغدا ورفاهية علي حساب حرمانهم من ابسط حقوقهم الانسانية .. وبين "ونوس" في عبارات حواره كيف يفكر ذلك الملك وكيف يري الامور من حوله وكيف يتصور ان انفراده بكل خيرات ذلك الشعب امرا طبيعيا فهي ميراثه الشخصي وكيف يري افراد شعبه وكأنهم خلقوا خصيصا لخدمته ورعايته والانصياع له والخضوع لاوامره الملكية !!! وبين "ونوس " ببراعة وموهبه وبصيرة في صفحات مسرحيته وفصولها التناقض الجم بين ضفتي النهر تلك التي يقطنها الملك والاخري التي يعيش فيها الرعية المحكومين فرسم لنا بريشه قلمه الذكي مظاهر الرفاهية التي يعيش فيها الملك في قصره المنيف وحدائقه الغناء فرأينا الرخام المرمري تحت قدميه وشاهدنا العرش الذهبي الذي يضم جسد الملك بين احضانه الحانيه يجلس عليه غافيا من الراحه والسعاده وسمعنا صوت حفيف الحرير الذي يلف بدنه باثوابه الفياضه وشممنا رائحه المسك والعنبر والبخور الجميل التي تعطر بلاطه ... ثم انتقل بنا " ونوس " للضفة الاخري مسلطا ضوئه علي حياه المحكومين واستعرض نماذجهم فرأينا من بينهم الخانع والخاضع المتمرد الغاضب الخائف الثائر ثم استعرض حياتهم فرأينا بؤسهم وشاهدنا انياب الفقر تنهش في اكبادهم وسمعنا صوت نحيبهم يشكون لله الرحيم مظالم الملك "المفتري" الذي انفرد بخيراتهم وحرمهم منها و"مص" دمهم واكل خبزهم وملحهم وتجاهل شكواهم وعذاباتهم ودموع قهرهم وفرض عليهم الضرائب والمكوس واطلق خلفهم رجاله وبصاصيه وعيونه ومخبريه ترصد انفاسهم وتقيس غضبهم وتلاحقهم وتطاردهم وتمنع النوم عن اعينهم المتعبة!!
ولم يكتفي " ونوس " بذلك الاستعراض لحال الملك وحال الرعية بل تصاعد بازمة مسرحيته وافهم قاريءه ومشاهد مسرحيته علي المسرح ان ذلك الملك المستبد لم يكتف بكل ما اقترفته ايديه وايدي حاشيته ورجاله المرعبين بل صعب الحياة اكثر واكثر علي محكوميه حين اطلق " فيله " المدلل بين الرعية ناشرا الرعب في ازقتهم وحارتهم الضيقة يدوس بجسده الضخم علي رقاب اطفالهم ويخنق باقدامه الثقيله مزروعاتهم ويهدم ب"زلومته " الباطشة جدران منازلهم واسقف محلات تجارتهم واوضح " ونوس " ان الرعية في البداية تجاهلت الفيل وكأنها لاتراه ولم تسمع عن جرائمه ثم تحملت كوارثه وتعايشت مع نتائجها الخطيرة حتي ضاق بهم الحال وقطع الغضب الجارف من " الفيل " وتصرفاته الهوجاء الحمقاء حبال صبرهم فقرروا بعد معاناة شديده وعذاب مرير وبعد صراع مع رعبهم الدفين وبعد تغلب علي مخاوفهم الراسخه داخل قلوبهم ونفوسهم المرتعده ، قرروا ان يشكلوا وفدا من بينهم يقدم للملك شخصيا وبين ايديه مظالمهم من " الفيل " الذي احال حياتهم جحيما وزود عذاباتهم وصعب عليهم حياتهم الصعبة اكثر واكثر !!! واستعرض " ونوس " علي ألسنه ابطاله من الرعية الغاضبه العبارات التي سيقولوها في حضرة الملك " الفيل ياملك الزمان قتل اطفالنا " ، " الفيل ياملك الزمان هدم بيوتنا " ، "الفيل ياملك الزمان داس علي رقاب شيوخنا واخاف نساءنا " وفي النهايه " ابعده عنه ديارنا وطريق اطفالنا " ، " احمنا من الفيل ياملك الزمان " !! وهكذا اختتم " ونوس " الفصل الثاني من مسرحيته بعد ان اعد قراءه ومشاهديه للحظة المواجهة القاسية تلك التي يفيض فيها بالمظلومين الكيل وينتفضوا دفاعا عن حياتهم وحياة اطفالهم واجلسنا " ونوس " في مقاعدنا علي رؤوسنا الطير ننتظر مالذي ستسفر عنه تلك المواجهة بين ملك ظالم مستبد ورعية مظلومة مقهورة احال " فيل " الملك حياتهم لعذاب مؤلم لاينتهي .. لكن الكاتب المسرحي البارع " سعد الله ونوس " الذي شخص واقعنا العربي ببراعة وقرأ تفاصيله بدقة ودرس نفسيه شعوبه وطرق تفكيرهم واساليب تفاعلهم من الحياة ومشاكلها وبعد ان اعد خشبه مسرحه للمواجهة الشامله بين الحاكم والمحكومين وبعد ان اوهمنا بأن انتفاضه المحكومين قد بدأت وان صمتهم واستكانتهم وخنوعهم قد انتهي وان غضبهم قد انفجر سيغير حياتهم للافضل والاحسن وانهم من الشجاعة والقوة بحيث سيقفون امام " ملك الزمان " يشكون له " فيله " وجرائمه المستمرة في حقهم ، بعد كل هذا افتتح " ونوس " فصله الثالث والرعية يقفون في اسمالهم وملابسهم الرثه امام ملك الزمان المدجج بلاطه باسلحه حراسه ورجاله الاشداء محاطا بوزراءه وحاشيته ينطلق الشرر من اعينه ينظر للرعية بضيق لايصدق انهم هؤلاء الحثاله اقتحموا بلاطه ووقفوا فوق مرمره اللامع وان رائحه عرقهم وتوترهم قد اختلطت والهواء الذي يتنفسه ، افتتح "ونوس" مشهده والرعية تقف في حضرة الملك وامام عرشه الذهبي تصطنع شجاعة وتدعي ثباتا وتظهر قوة يفضحها انتفاضات اجسادهم النحيلة رعبا وهم امام ذلك الملك الذي احال بايديه الخضراء حياتهم لعذاب مستمر وفي ذات القاعة يقفون بجوار رجال البطش الذي تركوا علامات غضبهم علي اجسادهم النحيلة خطوطا زرقاء وحمراء وارجوانية من اثر الكرابيج التي لايتركوا من ايديهم ولاينزلوها من فوق اجساد الرعية فاذ بالرعية يتلعثمون وتضيع من بين شفاهم العبارات المعدة والجمل التي تم التدريب عليها فلا يبقي لهم الا كلمه " الفيل ياملك الزمان " ثم صمت وخوف " الفيل ياملك الزمان " ثم عرق وتوتر " الفيل ياملك الزمان " ثم جمود ورعب !!! وتعمد " ونوس " ان يعيش القاريء والمشاهد في حاله التوتر التي تشعر بها الرعية وكأنهم يقول لنا انتم من بين هؤلاء الناس تعيشون حياتهم البائسة وتعانون من الرعب الذي يضج مضاجعهم وتخافون هذا الملك وكل ملك مثلهم بالضبط ، تعمد " ونوس " ان يخيف القاريء والمشاهد من العين الحمراء لملك الزمان الذي كشر عن انيابه في وجه الرعية ووجهنا يخيفنا يحشر الكلمات في حلوقنا وهو يصرخ في رعيته ضائقا بزيارتهم غاضبا من تجرأه علي بلاطه " ماله الفيل " ؟؟!!! ويهزمنا "ونوس" بالضربة القاضية ويسجل انكساراتنا بنصل قلمه الجارح حين يضع علي لسان احد الرعية الذي تملكه الرعب من الوقوف امام الملك لآيرغب الا في الفرار من بلاطه المخيف عبارات تفصح عن حب الرعية للفيل وتقدير الرعية للفيل ورغبة الرعية في الحفاظ علي الفيل " وحفظه الله لنا ياملك الزمان !!!!!!" ...
وهكذا انهي "ونوس " مسرحيته بوضع المرأة في وجوهنا وارانا ضعفنا وعجزنا واسمعنا نحيبا مكتوما "يعدد" بمرثيات غاضبه تنعي رعيته المرتعده التي شحذ قوتها واطلق عزيمتها وتجاهل خوفها ورعبها ودفعها دفعا في طريق التمرد والغضب و" ياروح مابعدك روح " ثم هزمها بقوه وعنف ونحن معها مؤكدا ان الجبن قد تملك الرعية من كثره مالاقت وعانت وان الخوف قد امتلك قلوبهم وعقولهم وان الصمت الذي اقتاتت به سنوات وعقود اخرس ألسنتها وان الظلم الذي عاشت تحت حكمه قد تمكن منها وحولها لكائنات ضعيفه مقهورة لاتملك من امر نفسها شيئا واوضح لنا " ونوس " ان خوف الرعية التي عرض صورتها وكل رعية لم يتحدث عنها هو من اهم المسببات لاستبداد الملك وبطش الملك وجبروت الملك فكأنه يذكرنا بالمثل الشعبي " قالوا يافرعون مين فرعنك قال مالقيتش حد يردني !! " بل واغلق "ونوس" امامنا باب الشكوي وابواب الرحمة والامل الكاذب وقال لنا ان الطريق لرفع المظالم لايبدأ بالشكوي من الجلاد للجلاد وان السبيل لانهاء الظلم ليس التضرع للظالم برفع ظلمه عن المظلومين ، وان الدموع التي اسالتها ضربات الباطشين علي وجنات اطفالنا لن تمحوها ايديهم الغليظة وان الغضب من الفيل الظالم والرغبة في الخلاص من بطشه وجبروته لايكون بالشكوي لصاحب الفيل والتضرع بين ايديه والبكاء علي قدميه و " احمنا من الفيل ياملك الزمان " !!!!!
كنت قرأت تلك المسرحية وانا في بدايه سنوات الشباب وانهيتها غاضبه من سعد الله ونوس ذلك الكاتب المتشائم من وجه نظري وقتها الذي لا يري الشعب العظيم علي حقيقته وبعد ان مرت عقود واشتعل الشيب في الرأس وادمت الطعنات الغادره قلبي وبعد ان ترك الزمن الجبار اثاره علي نفسيتي يأسا وحزنا علي حالنا وحياتنا ومصيرنا ومستقبلنا اعترف انني مدينه باعتذار للكاتب الكبير عن غضبي الاهوج من مسرحيته العظيمة واعترف له هامسة ان الفيل وغيره من الحيوانات المتوحشة الكاسرة قد انطلقوا في حياتنا يدمروها ومازلنا نشكو همومنا ومظالمنا للرب ونبكي في الليل سرا وندعو القدير ان يغير الاحوال فأن وقفنا في حضره الملك طلبنا منه نفاقا ورعبا " حفظه الله لنا ياملك الزمان !!!!!!"
الفقرة الاخيرة – شخص المثقفين العرب علي اختلاف جنسياتهم واعمالهم وعطائهم منذ عقود طويله مشاكل شعوبنا ومنحوها حلولا لانهاء تلك المشاكل والتخلص من اثارها المدمرة ، لكن شعوبنا تعيش في امية مطلقة فلا تقرأ ولاتهتم بما يكتب ولاتفهم ما تقرأه فضاع جهد المثقفين هباء كالحرث في المياة لم يثمر !!!
الجمله الاخيرة - ارجوكم ... كفانا سخريه من حالنا فتلك السخرية المريرة الموجعة كاشواك الصبار نغرزها في قلوبنا لن تغير من واقعنا ولن تمنحنا السعاده التي نحلم بها ونستحقها ،ياليتنا نوجه جهدا لاشياء اكثر نفعا !! رجاء اوجه للمبدعين الشعبيين بمناسبه النكته القاسيه التي سمعتها والتي اسماها الشعب نكته " كوبري 6 اكتوبر" !!!!
هناك تعليق واحد:
نشرت هذه المقاله في الفيس بوك فجائتني هذه التعليقات
Negad El Borai wrote
at 11:11am on February 27th, 2008
مش ممكن اخيرا بقيتي واقعيه ، وبطلتي تفاؤل ، وعرفتي الصورة الحقيقيه ، لكن انا مش فاهم طيب شعوبنا امية ، وحكامنا ما بيقروش ليه ، ولما يقروا ما بيفهموش ليه ، ولما بيفهموا بيفهموا غلط ليه ؟ عندك اجابة .
Amira Abdalla wrote
at 3:16pm on February 27th, 2008
ياحول الله يااخي - انا واقعيه جدا - لكن برضه متفائله جدا !!! معضله حلها انت بقي - انا مش مسئوله عن احساسك باللخبطه - انا واقعيه وشايفه الصوره بكل قبحها لكن عندي تفائل طاغي - اعمل ايه اموت نفسي علشان تكتئبوا اكتر واكتر وتستريحوا
Manal Fahmy wrote
at 10:34am on February 28th, 2008
مين قال إن الناس مبتقراش؟ بتقرا على الأقل الجرايد لدرجة إنهم بيتشاركوا فيها... وكمان بيناقشوا الموضوعات إلى بيقروها
لكن مشكلتهم إنهم بيرموا العيب على أسباب خارجية ويحبوا يعيشوا فى دور الضحية وده مريح لهم بالهم ومساعدهم علي الاستسلام المخزى إلى هم فيه
Nahed Fareed Shawky wrote
at 12:44am on February 29th, 2008
مين دارى بيك يالى فى الظلام بتغمز
Mona Abolnaga wrote
at 2:01pm on February 29th, 2008
أنا متفائلة زيك ومنتظرة التغير عملا بمقولة جدتى كل شيىء له بداية وله برضه نهاية فمش ممكن هنقعد خايفين من الفيل و صاحب الفيل كتير
Mona Abolnaga wrote
at 2:03pm on February 29th, 2008
أنا متفائلة زيك ومنتظرة التغير عملا بمقولة جدتى كل شيىء له بداية وله برضه نهاية فمش ممكن هنقعد خايفين من الفيل و صاحب الفيل كتير
إرسال تعليق