الخميس، 4 سبتمبر 2008

" الاختيار .... والثمن الباهظ "




لااعرف بالضبط ما الذي دار بخلد الفنان يوسف شاهين وقت اخرج لنا رائعته " الاختيار " و لااعرف بدقة ماذا قصد من صناعه هذا الفيلم وماهي الرسالة التي عمل جاهدا - وبحرفيه راقية وفريق تمثيل متميز حساس- لتوصيلها لجمهوره من هذا الفيلم ؟؟؟ كل مااعرفه منذ اللحظة الاولي لمشاهدتي لذلك الفيلم انه فيلم جاد يقسو علي المشاهد ويعذبه ثم يفتح له الباب ويلقيه حائرا امام الحياة التي كان يعيشها قبل الفيلم فاذ بالمشاهد يدرك انه يعيش حياته ولاتعجبه والاخطر انه يحس عجزا عن تحديد ما يعجبه !! لااعرف حتي هل مااحسست به وقت شاهدت ذلك الفيلم هو مقصد مخرجه الذي استهدف قوله ام ان مااحسست به هو مقصدي انا استنتجته من الفيلم تعسفا واستنطاقا للسيناريو بمالم يقله!! لااعرف ولم اكترث وسكنت لاحساسي بالفيلم ومشاهده وسررت بفهمي الخاص له واحببته وشاهدته عشرات المرات كأنني اذكر نفسي كلما قادني التيار بعيدا عن الارض كريشة في مهب الريح بضرورة الاختيار !! وكنت في اوقات سابقة ابحث عن ذلك الفيلم وارمي بنفسي في وسط احداثه احتماءا به وبرسالته – كما وصلتني وفهمتها - من دوامة الحياة التي تجذبنا لقاعها وتقذف بنا في الطرق المتشابكة المتشابهة وتكاد تقودنا لطريق " الندامة " او "سكة اللي يروح ومايرجعش " وقتها وفي تلك اللحظات الصعبة اسلم عقلي واحساسي ليوسف شاهين وافكر معه في الحياة وعجائبها وصعوبه دروبها ونتائج اقدارها التي تصنع بنا وبابطاله ما تريد وتخيرنا بين فقدان العقل او فقدان الحياة او الاختيار الصعب ودفع الثمن !!! ولان هذه الايام صعبة ومواقفها ملتبسة وغيبوبتها طاغية واكتئاباتها مسيطرة قادني احساسي للفيلم وجلست امامه افكر بعمق كأنني اشاهده للمرة الاولي اتأمل مشاهده واندهش لانحرافاته الدرامية القاسية وعشت حيرة المشاهد الذي جلس يري الفيلم للمرة الاولي مشدوها ملتصقا بمقعد دار السينما فجرفته احداث الفيلم امامها وبعثرت استقراره المزعوم فلم يكن امامه سبيلا من تسليم يده وعقله طواعية ليوسف شاهين الذي قاده بحنكة وبراعه في طرق الحياة وسلط عليها وعلينا الاضواء وتركنا مرتبكين نبحث باقدامنا المعلقة في الهواء عن ارض صلبة نقف عليها ويوسف شاهين يكرر ويكرر " لا مفر من الاختيار .. " !!! جلست امام الفيلم افكر في المغزي الحقيقي من رسالة يوسف شاهين وقت اظهر بطله شخصين اولهما مثقف عاقل مرموق مشهور لديه كل مايتمناه الاخرين ثراء ملحوظ وزوجة جميلة وبيت فاخر ومناصب عليا يشار اليها بالبنان وثانيهما صعلوك حكيم لايملك الا عشقه للحياة وفلسفته الخاصه الجميلة المستقاة من تعامله الحر الطليق مع حبيبته "الحياة" واستمتاعه بقسوتها بحنانها ببرودها بحميميتها بكل تفاصيلها الجميلة الموجعة !!! وسألت نفسي مرارا لماذا قسم يوسف شاهين بطل فيلمه لشخصين متماثلين متنافرين وحكم علي البطل الاول بالكره واخرجه لنا علي الشاشة صارم الملامح يعيش في برود ظاهر منفر فاذا بالجمهور ينحاز ضده من اللحظة الاولي وفي نفس الوقت حكم علينا بحب البطل الثاني المنطلق المتمرد الناطق بالحكمة المجنونه والعبارات الحقيقية الموجعة المحب الهارب دائما معتليا شراع مركبه هربا من قيود الدنيا ومن عذاب الحبيبة بل وهاربا من نفسه ذاتها هذا البطل الذي نكتشف عبر احداث الفيلم انه شخص حقيقي قتل لانه يملك ما لايملكه النصف الاخر الذي اعتقل نفسه او اعتقلته الايام في داخل الاطر الحديدية المقبولة اجتماعيا فاذا بالمعتقل في النهاية يكسر القضبان بقسوة تمردا علي ذاته الكريهه فيقتل نصفه الجميل ويتقمص حياته ويعيشها ثم يفقد عقله ويضيع!!! ولم اجد بسهوله اجابات لاسئلتي الذي استنفرها يوسف شاهين واخرجها من مكامنها السرية لكني في النهاية اهتديت لرؤية يوسف شاهين لنا نحن الجمهور باعتبارنا "محمود" بطله الاسير خلف سياج القبول الاجتماعي والرضا الجماعئ و"اللي يصح واللي مايصحش" الي الحد الذي فقدنا ذواتنا وصفاتنا الجميلة وانسانيتنا وانفسنا ذاتها فأراد يوسف شاهين ان يحذرنا من المصير الذي نساق اليه نبدد اعمارنا احياء كالاموات محتجزين في الجانب المظلم البارد من انفسنا نقتات مرار في مرار نستيقظ مخدرين وننام مؤرقين تقتلنا الاحلام المكبوته المجهضة والكوابيس الواقعية لانرضي عما نعيشه ولانتأقلم عليه ولا نتمرد علي ايقاعه الرتيب فجاء فيلمه ومضة ضوء في ظلمة حالكة صرخة احتجاجية علي تبديد الحياة واهدار ايامها لينبه الجمهور "افيقوا " كأنه يوقظنا من غيبوبتنا الاختيارية ويحذرنا من حزننا الاتي يقينا علي ضياع حياتنا ويناشدنا استدراك مابقي منها قبل ان يسبق السيف العزل !! اهتديت الي ان ذلك الفيلم ليس الا صرخة الم ودمعة حزن علي هؤلاء الذين سيموتون وهم – للاسف – راضيين عن حياتهم غائبين مغيبين عن قدر الخسارة التي اصابتهم وهم يقطفون اوراق وردة حياتهم ويلقوها علي الارض الواحده تلو الاخري برتابة وانعدام احساس وعدم اكتراث وعدم ادراك للوضع المأساوي الذين يعيشون فيه !!! وقد لفت نظري حين شاهدت ذلك الفيلم مؤخرا – ومنذ المرة الاولي - ان يوسف شاهين قد وضع كل من النصفين او البطلين في اطار جلي فج فبطله العاقل هو رمز اجتماعي واضح لجني كل المكاسب المتمناة وعذاب خسران نفسه وبطله المتمرد هو عبرة منبوذة اجتماعيا لايملك الا نفسه وحكمتها ولايقبض الا علي الريح راضيا متألقا سعيدا كأنه يقول لنا ان القضايا واضحة والامور جلية وكل ماعلينا هو الاختيار بين الصعب والاصعب ودفع الثمن !! وقد لفت نظري دائما المشهد الاخير للفيلم ذلك الذي يظهر سيارة مغلقة تضم بطلينا او نصفي بطلنا يتشاجران مع بعضهما البعض يدين كل منهما الاخر ويلومه علي المصير الذي آل اليه فاولهما فقد عقله والثاني فقد حياته وكليهما دفع الثمن الباهظ !!! بل ولفت نظري اللقطة التي تجري فيها النساء خلف العربة تنادي كل منهما ذات الرجل باسم مختلف وكأن يوسف شاهين خاف الا نفهم رسالته فافصح في اللحظة الاخيرة ان البطلين ليسوا الا نصفين لبطل واحد شأننا جميعا عاشا حياتهما في تشابك وصراع والتقاء ونظر كل منهما للاخر باعجاب وكره وتناقض كل منهما والاخر والتقي به ثم فر منه او من نفسه كأن يوسف شاهين يصف نفس كل منا وماتواجهه من صراعات حياتيه نعيشها في كل لحظة ولاتنتهي الا بنهايه الحياة ذاتها !!!! جلست اتأمل بطلي الفيلم " محمود " المثقف عالي المقام الذي يفقد وقاره امام عفوية اخيه البحار " سيد " الذي يعيش منطلقا هادرا ينهل من الحياة ومفاتنها بقدر ما ترغب نفسه فارا من القيود الحديدية التي تكبل شقيقه "محمود " الثري الذي لاترويه بحار الملح التي يغترف منها ويبقي ظمآن فيهرب تحت جلد اخيه المعدم المنطلق بعد ان تملكته الغيرة ويقتله ويعيش الحياتين معا !!! جلست اتأمل البطلين وحياتهما وتناقضها والمصير الذي انتهت اليه حياة كل منهما وافكر في قسوة يوسف شاهين الذي قادهما لنهاية محتومة قاسية بعد ان منح كل منهما ماكان يتصوره كافيا وهاما فنكتشف في النهاية ان " محمود " حوصر داخل " سيد " ورفضه وانتقده لكنه احبه ورغب في تملكه كمثل ما تملك كل ما رغب فيه فلم يكن امامه الا تقمصه والعيش في حياته بعد ان سلبها منه !!! انتهي الفيلم بعد ساعتين من الانهاك النفسي وبقيت علي مقعدي صامتة جامدة افكر في الحياة التي تدفعنا اقدارها في طرق وسبل نتصور انها كل مانتمناه لنكتشف في لحظة صدق مع النفس اننا لانحب ما نحن فيه ولانقوي علي ما نحبه واننا عاجزون عن الاختيار بقسوته بحدته بثمنه الباهظ واننا نتمني كمثل "محمود "ان نقبض علي حياتنا بكل ما فيها من مكاسب ونعيش حياة " سيد " بكل ما فيها من حيوية وسعادة لكن يوسف شاهين لايتركنا نتمني ولايقبل تناقضنا ولا يصمت عن عجزنا بل يذكرنا دائما بضرورة " الاختيار " !!!! الفقرة الاخيرة - اهدي هذه المقالة لصديق يعيش اياما صعبة يبذل فيها جهدا مروعا لاسترداد نصفه المتمرد الذي تخلي عنه في لحظة انكسار وخضوع للافكار المسيطرة فاكتئب واكتئب ثم افاق علي الحقيقة الموجعة التي يعيشها وقبل ان يسترد نصفه الحميم هددته الايام بثمن باهظ يدفعه فاذ بحيرته تزداد وترتبك خطواته امام مفترق الطرق اهدي له المقاله ومعها شريط فيديو للفيلم عله يري من رائعة يوسف شاهين ما يعاونه علي حسم مواقفه ومصالحه نفسه والتئام جروحه ولو كان ذلك جميعه بالثمن الباهظ واذكره بقول الحكماء " ماذا يستفيد الانسان لو كسب العالم كله وخسر نفسه " ... الجملة الاخيرة – اهدي هذه المقالة لصديق عاش بنصفه المتمرد متألقا سعيدا وفي نفس الوقت معذبا من المجتمع المتربص ببشره لايتركهم في حالهم هانئين لكن نصفه العاقل لم يتركه وشأنه وابتزه وحاصره وزين له الوقار والجمود والخضوع للمألوف فضائل حرم من ثمارها وهاهو صديقي علي وشك ان يجني ثمار فضيلة العقل ويفقد اجمل ما فيه !! اهدي له المقاله ومعها شريط فيديو للفيلم عله يري في " محمود " ما ينفره فيدرك ان مآل منتهي العقل ضياع العقل وراحة النفس ومتع الحياة !!! السطر الاخير –تحية حب واحترام وامتنان ارسلها ليوسف شاهين الفنان العظيم اطال الله في عمره ليمتعنا ويسعدنا ويعذبنا العذاب الجميل !!!! الكلمة الاخيرة – مااجمل الفن الجميل .... الاربعاء 28 يونيو 2006

هناك تعليق واحد:

اميرة بهي الدين يقول...

نشرت المقاله في الفيس بوك فجائتني هذه التعليقات

3 comments

Nadia Abd El Wahab wrote
at 9:36pm on February 7th, 2008
Thanks Amira for reminding me of this film /fact /wisdom /madness. You write in a very poetic way.. I know a lot of your talents..butwhen ever I see / know you more I discover more aspects... I had seen the film once when I was so young..I think I should see it again...
N


Amira Abdalla wrote
at 1:34am on February 8th, 2008
انا مبسوطه ياناديه ان المقاله لفتت نظرك فالواحد اقصي احلامه وهو بيكتب ان الناس تشوف في كتابته حاجه مفيده او ليها قيمه - فشكر ليكي انتي


Hatem Hafez wrote
at 1:53am on April 11th, 2008
هو فيه حكاية في رواية ساحر الصحراء تقريبا بتقول اللي يوسف شاهين قالها
وهو انه علينا الاختيار بين اننا نعيش الحياة او اننا نحافظ عليها