" مادايم الا وجه الله " جمله سمعتها كثيرا وانا صغيرة اسير لهوا خلف الجنازات في الشارع الرئيسي لقريتنا لم افهم ابدا معناها فصغر السن والطفوله البريئة والامان التلقائي الذي تشعر به في حضن امك يجعلك تظن وهما ان الحياة الجميلة التي تعيشها ستستمر علي حالها والي الابد ، لكن صراخ النسوة متشحات بالسواد وبكاء الرجال الفياض خلف نعش جدتي لابي تلك السيدة التي كانت تعتبرها القرية وكل ابناءها رأس الحكمة وينبوع العطاء مجدلوين بصرخات اللوعة التي خرجت من قلب الشيخ العجوز امام الجامع وهو يسير خلف نعشها يودعها "مادايم الا وجه الله " ترتسم علي قسمات وجهه الهرم الم الفقد ووجع الافتقاد شرحت لي وبغير تفسير معني " مادايم الا وجه الله " فادركت رغم سنوات عمري القليلة وقتها معني الرحيل البشري الموجع وان حياة البشر مهما استطالت مؤقته بسنواتها التي لابد وان تنتهي !!! وحين تركت الطفوله وبراءتها وولجت في خضم الحياة وامواجها العاتية ادركت بخبرة المراقبة ان لحظات الفقد الكثيرة قادمه في حياتنا محطات بكاء !!! وحين مشيت في الطرق الوعرة اكثر ولاطمتني الحياة بقوتها العاتية ادركت وبعد خبرات موجعه قاسية ان ايام عمرنا مثل ساحات التزحلق الجليدية وان حياتنا تمر عليها بزلاجات الركوب تنطلق في مسارات عشوائية عبثية لااختيار فيها ولا قرار عمدي لكنها فقط الرغبه في المحافظة علي التوازن والبقاء وان علي كل منا اذا ماانحرفت زلاجته وكأنها ستلقيه من فوق وجه الحياه عليه ان يوازن نفسه ويستجلب من نفسه كل قوتها لضبط حركته والاستمرار في صراع الحياة حتي لحظاتها الاخيرة ... وهاهي السنوات قد تراكمت خلف ظهري شاهدت فيها كل ماكنت اظن وانا صغيرة انني لن اشاهده فبكيت خالتي وهي شابه في ريعان الشباب اختطفها الموت المفاجيء بصداع معتاد ، وبكيت عمتي التي احتضنتي وتبنتني انا وامي واعتبرتنا بناتها الصغيرة والكبيرة ودللتنا وشغلت لنا الكنزات الصوفية ومنحتها حبها في " برطمانات الزيتون المخلل " فاذ بها وبعد عطائها الفياض المستمر سنوات وسنوات حتي ظنناه ابدي تبخل علينا بنفسها وتتركنا وترحل في عجاله تاركه خلفها حبها وذكرياتنا و " مادايم الا وجه الله" وبموت خالتي اغلق منزلها الذي عشت فيه سنوات فرحتي وطفولتي ولهوي البريء فعلمتني بموتها درس رحيل الاماكن بذكرياتها المحببة درسا موجعا اليما ، وبموت عمتي اغلق منزلها البسيط الجميل الذي تعلمنا فيه التذوق الفني من لوحات فان جوخ وبيكاسو تزين جدرانه وتعلمنا فيه الحب السخي والعطاء المفرط وتعلمنا " الطبيخ " فاذ بموتها يأتيني بالصدمة الثانية التي افهمتني وكنت في الجامعه وقتها ان حب الاشخاص يمتد لحب اماكنهم التي عاشت فرحهم وحزنهم وشاهدت عطائهم وشهدت علي وجودهم الجميل في الحياة وان الفقد ليس فقد الموت فقط بل الفقد الذي سيبكينا ويبكينا هو فقد الرحيل والمغادره رحيل البشر ومغادره الاماكن وان " دوام الحال من المحال " وان حياة البشر مثل القشة الطافية في المحيط الهادر لاتتوقف حركتها ولاتسكن الا في لحظات الوداع الاخيرة حين تصل لمحطة الراحة الابدية ، وحين اتفقت العائلة علي هدم بيت جدي الريفي وبيع انقاضه وارضه واقتسام حصيلته البخسه اوراقا لاقيمه لها بكيت بالدمع الحار وفهمت انني احب الاماكن قدر حبي لبشرها وانه اذا كان رحيل البشر موجع فأن الرحيل عن الاماكن التي تضم بين جنباتها ذكريات وانفاس ذلك البشر اكثر ايلاما ... وعشت حياتي كلها اتمني السكون في مكان واحد اعتبره البيت الذي امنحه حبي فيمنحني امانه ، وارتب مفروشاته فيشع بهجة واصور بناتي بجوار جدارنه فيصرن جدات ويعدن اليه مع احفادهن باعتبار بيت العائلة التي عاشت في ذلك البيت ولم تغيره ولم ترحل عنه !!! لكن لانه " مادايم الا وجه الله " فقد تنقلت في حياتي الطويلة بين بيوت كثيرة عشت في كل منها كأنني في محطة القطار انتظر ساعه الرحيل الحتمي فمنحت كل منها جزء من حبي وحجبت عنها معظم مشاعري لانني كنت اتصور واعرف انه مكان مؤقت لن تطول اقامتي فيه اما لصغره او لبعده او لضيقه اولاي سبب اخر وعشت سنوات وسنوات ادخر حبي الكامل للبيت الذي حلمت به واحلم باستيلاءه الكامل علي كل مشاعري المختزنه واعيش فيه انا وبناتي واحفادي واحفادهن بيت للعائلة !!!
وقد خدعتني الايام وهما ومنحتني البيت الذي كنت اتصوره دائما ابديا فمنحته كل الاهتمام والتأنق والرعاية ، وافقت يوما علي حقيقة لالبس فيها ان ذلك البيت الذي انتظرته طويلا ليس بيتي وانه يتعين علي وان طال الزمن الخروج منه فوضعت نفسي بارادتي بين خيارين اما الاستمرار المؤقت كالاقامة في ترانزيت المطار او الخروج والرحيل الفوري ... وقد فكرت طويلا وحسمت امري .... وها انا اكتب لكم اليوم وانا استعد للرحيل وتغيير منزلي والاقامة في منزل جديد ومكان جديد لم اعتاد بعد رائحته ولم احب بعد شوارعه ولم انصت بعد لصوت عصافيره ولم اتعرف بعد علي نغمات حفيف اوراق اشجاره ، اكتب لكم اليوم وانا استعد للرحيل بعد ان لملمت اوراقي وكتبي وملابسي ومقتنياتي العزيزة وهدايا امي رحمها الله واللوحات الجميله التي اهداني بها اصدقائي عبر سنوات العمر وكل ذكرياتي الجميلة ومشاعري المتناقضة لملمتها جميعها في صناديق ورقية كئيبة اللون كلحظات الرحيل وكدستها فوق بعضها البعض كسنوات العمرعلي الاكتاف المرهقة عبئا ثقيلا واستعديت للرحيل وتغير الاماكن والاشخاص والالوان ورائحه الاستيقاظ النهاري وصوت السكون المعتاد ولون الليل الذي سيحتويني في حضنه في اخر اليوم تعبا ، اكتب لكم بعد ان جهزت نفسي ونفسيتي للتغيير الشامل علي صعوبه هذا الاستعداد ، فالمكان الذي تعيش فيه يعيش فيك والمكان الذي تعتبره مكانك يصبح جزء منك وتتوحدا معا فيصبح البعد عنه اغترابا وعقابا والما تجنيه بغير ذنب ارتكبته ويصبح الرجوع اليه عتق من عذاب الهيام في الاماكن الموحشة لذا اذا حين تقرر الرحيل عن الحضن الذي اعتدت علي دفئه وانتظمت خطوات حياتك مع دقات نبضه احتجت لآستعداد نفسي قوي يمكنك من الانسلاخ من الحميمية التي سكنت فيها ويجمد الدموع في مقلتيك فلا تسقط ولاتظهر ، احتجت لاستعداد نفسي قوي يستجلب من داخلك كل الصلابة وكل التماسك وكل القوة التي تعيش سنوات وسنوات تخزنها في داخلك رصيدا للايام الصعبة التي قد تتعرض لها بضربات القدر العشوائية التي لاتفهم – مهما احترق رأسك من كثرة التفكير – سببها او مبررها ... وها انا – ومن اسابيع واسابيع سابقة - قد جهزت نفسي ونفسيتي للتغيير الشامل تغيير الاماكن والبشر، تغيير رائحة النهار ، تغيير ملمس الفراش الذي تطاردك الهواجس فوق بدنه تطرد النوم المريح والاحلام من رأسك ، تغيير لون الجدران التي تفتح مقتليك المرهقتين عليه لحظة الغسق الاولي ، تغيير ملمس الارض تحت قدميك الحافيتين وقت نزولك من فوق الفراش ، تغيير الاصوات التي اعتدت علي سماعها حين تفتح باب المنزل وتخطو خطوتك الاولي علي السلم في طريقك للخروج ... وقد احتاج مني الاستعداد للرحيل رؤية القبح في المكان الذي كنت اظن نفسي احبه واستعاده كل لحظاته الموجعة الكريهة واستدعاء كل احزاني واخفاقاتي وتوتري وغضبي فيه وتحت اسقفه وبين جدرانه ، احتاج مني الاستعداد للرحيل استجلاب مشاعر الكراهية تجاه كل تفاصيل المنزل الذي تمنيته سنوات طويلة وحين صنعته وعشت فيه اكتشفت ذات يوم انه ليس بيتي ولن يكون فبيتي هو الذي لايستطيع كائن من كان ان يخرجني منه اما تلك الجدران والاسقف التي كنت اتصورها رحما دافئا فهي ليست الا " حضانه " صناعية لاتمنح حبا او حنانا او امانا لذا قررت الخروج منها بكامل ارادتي وكامل وعيي ، احتاج مني الاستعداد للرحيل استجلاب مشاعر الرفض والنفور من ذلك المكان فسرت في طرقاته اتعجب كيف عشت فيه سنوات وسنوات وهو بهذا القبح المعماري كيف عشت فيه سنوات وسنوات وهو مظلم تقبض وحشته علي صدري كيف عشت فيه سنوات وسنوات ولون حوائطه بارد لاينبعث الدفء منها كيف عشت فيه سنوات وسنوات لااحب مفروشاته ولا الوانها فالاحمر كمثل الوجه المحتقن المكظوم والاخضر كاشجار الصحراء لاحيويه فيه والاصفر كلون وجوه الموتي مخيف بارد ، كيف عشت فيه سنوات وسنوات والشقوق تحتل كل اسقفه وجدرانه تهددك بالانهيار فوق رأسك تحس وراءها جيوش الحشرات ستخرج يوما من جحورها تلتهمك حيا ، كيف عشت فيه سنوات وسنوات رغم رائحة مدخله البغيضة خليط كريه من روائح الفضلات وطبيخ الجيران وثاني اوكسيد الكربون .... وكيف وكيف وكيف !!!!
وكنت اظن اسئلتي صعبه بلا اجابات لانني انا وانت وكلنا نعيش في منازلنا باعتبارها ارحام امهاتنا الدافئة لانتمني ابدا الخروج منها ، نعيش في منازلها باعتبارها مبعث السكينه في نفوسنا وملاذنا الامن نهرع اليها اذا ماقسي العالم الخارجي علينا ، نعيش في منازلنا محتمين بجدرانها واسقفها من شرور الاخرين الذين مهما تطاولوا علينا او طاردونا او ازعجونا لن يستطيعوا الدخول الينا في مكاننا الخاص الحميم وسيقفوا خلف بابه بعيدين عنك مهما اقتربوا ... لذا حين تقرر – بكامل ارادتك – ان تترك منزلك الذي كنت تظن انك تحبه وترحل عنه ، حين تقرر بكامل ارادتك ان البيت الذي كان بيتك لم يعد بيتك وان السكينه التي كنت تشعر بها قد تبددت والامان الذي كان يحتويك قد غادر جنباتك وان رحم زوجه الاب القاسية التي كنت تظنها وهما اما حانية قد لفظك الي المجهول لحظتها يتعين عليك ان تعد نفسك ونفسيتك للحظات الرحيل ، وقتها عثرت علي اجابات اسئلتي بكل سهولة ويسر واحسست بحياد مفهوم تجاه المكان الغريب الذي عشت فيه سنوات لااحبها واحسست بشوق جارف للمكان الدافء الذي اخترته منزلي ومنزل بناتي ، احسست بشوق جارف للمكان الجميل الذي رأيت بناتي وسط زهراته اجملهن ، احسست بشوق جارف للمكان الجديد الذي سأنتقل انا وبناتي لحضن جدرانه الملونه بالوان البهجة والفرحة والامان المطلق ، احسست بشوق جارف لبيتنا الجديد والاخير الذي لن يستطيع احدا – مهما كانت قوته او اسبابه او مبرراته – ان يخرجنا من بين جدرانه !!! احسست بشوق جارف لحضن امي ورحمها واحسستني اعود اليهما بعد طول شتات!!!
الفقرة الاخيرة – ليس كل الالم كريه ، فالم المخاض الجميل يخرج للدنيا اطفالا ننتظرهم بشوق وحب ، لذا مرحبا بالالم الذي يدفعنا في طرق الحياة اكثر تفاءلا واكثر قوة ...
الجملة الاخيرة – استخدم الانجليز كلمة " home " تعبيرا عن المسكن وعن الوطن ، وهو استخداما حميما جميل فالمسكن هو الوطن الصغير الذي يحتويك بحبه مثل الوطن الكبير بالضبط .. كنت اتمني ان نجد في اللغة العربية تلك الحميمية !!!
السطر الاخير – " بيت العز يابيتنا ، علي بابك عينبتنا " اغنية من الزمن الجديد تتردد في اذني كلما امسكت الطريق الدائري وصولا لمنزلنا "انا وبناتي" الجديد ...
وقد خدعتني الايام وهما ومنحتني البيت الذي كنت اتصوره دائما ابديا فمنحته كل الاهتمام والتأنق والرعاية ، وافقت يوما علي حقيقة لالبس فيها ان ذلك البيت الذي انتظرته طويلا ليس بيتي وانه يتعين علي وان طال الزمن الخروج منه فوضعت نفسي بارادتي بين خيارين اما الاستمرار المؤقت كالاقامة في ترانزيت المطار او الخروج والرحيل الفوري ... وقد فكرت طويلا وحسمت امري .... وها انا اكتب لكم اليوم وانا استعد للرحيل وتغيير منزلي والاقامة في منزل جديد ومكان جديد لم اعتاد بعد رائحته ولم احب بعد شوارعه ولم انصت بعد لصوت عصافيره ولم اتعرف بعد علي نغمات حفيف اوراق اشجاره ، اكتب لكم اليوم وانا استعد للرحيل بعد ان لملمت اوراقي وكتبي وملابسي ومقتنياتي العزيزة وهدايا امي رحمها الله واللوحات الجميله التي اهداني بها اصدقائي عبر سنوات العمر وكل ذكرياتي الجميلة ومشاعري المتناقضة لملمتها جميعها في صناديق ورقية كئيبة اللون كلحظات الرحيل وكدستها فوق بعضها البعض كسنوات العمرعلي الاكتاف المرهقة عبئا ثقيلا واستعديت للرحيل وتغير الاماكن والاشخاص والالوان ورائحه الاستيقاظ النهاري وصوت السكون المعتاد ولون الليل الذي سيحتويني في حضنه في اخر اليوم تعبا ، اكتب لكم بعد ان جهزت نفسي ونفسيتي للتغيير الشامل علي صعوبه هذا الاستعداد ، فالمكان الذي تعيش فيه يعيش فيك والمكان الذي تعتبره مكانك يصبح جزء منك وتتوحدا معا فيصبح البعد عنه اغترابا وعقابا والما تجنيه بغير ذنب ارتكبته ويصبح الرجوع اليه عتق من عذاب الهيام في الاماكن الموحشة لذا اذا حين تقرر الرحيل عن الحضن الذي اعتدت علي دفئه وانتظمت خطوات حياتك مع دقات نبضه احتجت لآستعداد نفسي قوي يمكنك من الانسلاخ من الحميمية التي سكنت فيها ويجمد الدموع في مقلتيك فلا تسقط ولاتظهر ، احتجت لاستعداد نفسي قوي يستجلب من داخلك كل الصلابة وكل التماسك وكل القوة التي تعيش سنوات وسنوات تخزنها في داخلك رصيدا للايام الصعبة التي قد تتعرض لها بضربات القدر العشوائية التي لاتفهم – مهما احترق رأسك من كثرة التفكير – سببها او مبررها ... وها انا – ومن اسابيع واسابيع سابقة - قد جهزت نفسي ونفسيتي للتغيير الشامل تغيير الاماكن والبشر، تغيير رائحة النهار ، تغيير ملمس الفراش الذي تطاردك الهواجس فوق بدنه تطرد النوم المريح والاحلام من رأسك ، تغيير لون الجدران التي تفتح مقتليك المرهقتين عليه لحظة الغسق الاولي ، تغيير ملمس الارض تحت قدميك الحافيتين وقت نزولك من فوق الفراش ، تغيير الاصوات التي اعتدت علي سماعها حين تفتح باب المنزل وتخطو خطوتك الاولي علي السلم في طريقك للخروج ... وقد احتاج مني الاستعداد للرحيل رؤية القبح في المكان الذي كنت اظن نفسي احبه واستعاده كل لحظاته الموجعة الكريهة واستدعاء كل احزاني واخفاقاتي وتوتري وغضبي فيه وتحت اسقفه وبين جدرانه ، احتاج مني الاستعداد للرحيل استجلاب مشاعر الكراهية تجاه كل تفاصيل المنزل الذي تمنيته سنوات طويلة وحين صنعته وعشت فيه اكتشفت ذات يوم انه ليس بيتي ولن يكون فبيتي هو الذي لايستطيع كائن من كان ان يخرجني منه اما تلك الجدران والاسقف التي كنت اتصورها رحما دافئا فهي ليست الا " حضانه " صناعية لاتمنح حبا او حنانا او امانا لذا قررت الخروج منها بكامل ارادتي وكامل وعيي ، احتاج مني الاستعداد للرحيل استجلاب مشاعر الرفض والنفور من ذلك المكان فسرت في طرقاته اتعجب كيف عشت فيه سنوات وسنوات وهو بهذا القبح المعماري كيف عشت فيه سنوات وسنوات وهو مظلم تقبض وحشته علي صدري كيف عشت فيه سنوات وسنوات ولون حوائطه بارد لاينبعث الدفء منها كيف عشت فيه سنوات وسنوات لااحب مفروشاته ولا الوانها فالاحمر كمثل الوجه المحتقن المكظوم والاخضر كاشجار الصحراء لاحيويه فيه والاصفر كلون وجوه الموتي مخيف بارد ، كيف عشت فيه سنوات وسنوات والشقوق تحتل كل اسقفه وجدرانه تهددك بالانهيار فوق رأسك تحس وراءها جيوش الحشرات ستخرج يوما من جحورها تلتهمك حيا ، كيف عشت فيه سنوات وسنوات رغم رائحة مدخله البغيضة خليط كريه من روائح الفضلات وطبيخ الجيران وثاني اوكسيد الكربون .... وكيف وكيف وكيف !!!!
وكنت اظن اسئلتي صعبه بلا اجابات لانني انا وانت وكلنا نعيش في منازلنا باعتبارها ارحام امهاتنا الدافئة لانتمني ابدا الخروج منها ، نعيش في منازلها باعتبارها مبعث السكينه في نفوسنا وملاذنا الامن نهرع اليها اذا ماقسي العالم الخارجي علينا ، نعيش في منازلنا محتمين بجدرانها واسقفها من شرور الاخرين الذين مهما تطاولوا علينا او طاردونا او ازعجونا لن يستطيعوا الدخول الينا في مكاننا الخاص الحميم وسيقفوا خلف بابه بعيدين عنك مهما اقتربوا ... لذا حين تقرر – بكامل ارادتك – ان تترك منزلك الذي كنت تظن انك تحبه وترحل عنه ، حين تقرر بكامل ارادتك ان البيت الذي كان بيتك لم يعد بيتك وان السكينه التي كنت تشعر بها قد تبددت والامان الذي كان يحتويك قد غادر جنباتك وان رحم زوجه الاب القاسية التي كنت تظنها وهما اما حانية قد لفظك الي المجهول لحظتها يتعين عليك ان تعد نفسك ونفسيتك للحظات الرحيل ، وقتها عثرت علي اجابات اسئلتي بكل سهولة ويسر واحسست بحياد مفهوم تجاه المكان الغريب الذي عشت فيه سنوات لااحبها واحسست بشوق جارف للمكان الدافء الذي اخترته منزلي ومنزل بناتي ، احسست بشوق جارف للمكان الجميل الذي رأيت بناتي وسط زهراته اجملهن ، احسست بشوق جارف للمكان الجديد الذي سأنتقل انا وبناتي لحضن جدرانه الملونه بالوان البهجة والفرحة والامان المطلق ، احسست بشوق جارف لبيتنا الجديد والاخير الذي لن يستطيع احدا – مهما كانت قوته او اسبابه او مبرراته – ان يخرجنا من بين جدرانه !!! احسست بشوق جارف لحضن امي ورحمها واحسستني اعود اليهما بعد طول شتات!!!
الفقرة الاخيرة – ليس كل الالم كريه ، فالم المخاض الجميل يخرج للدنيا اطفالا ننتظرهم بشوق وحب ، لذا مرحبا بالالم الذي يدفعنا في طرق الحياة اكثر تفاءلا واكثر قوة ...
الجملة الاخيرة – استخدم الانجليز كلمة " home " تعبيرا عن المسكن وعن الوطن ، وهو استخداما حميما جميل فالمسكن هو الوطن الصغير الذي يحتويك بحبه مثل الوطن الكبير بالضبط .. كنت اتمني ان نجد في اللغة العربية تلك الحميمية !!!
السطر الاخير – " بيت العز يابيتنا ، علي بابك عينبتنا " اغنية من الزمن الجديد تتردد في اذني كلما امسكت الطريق الدائري وصولا لمنزلنا "انا وبناتي" الجديد ...
هناك تعليق واحد:
نشرت هذا المقال في الفيس بوك فجائتني تلك التعليقات ..
Mahmoud Sayed Fouad wrote
at 4:37pm on January 16th, 2008
مقالة تحفة
برافو عليكي يا اميرة طلعتي بتعرفي تكتبي والله
Sahar El Gaara wrote
at 3:54pm on January 18th, 2008
ليه يا مرمر بتوجعى قلبى تانى
لازم تكفرى عن ذنبك وتكتبى مقال عن بيت الأِشجار
أنا مش باحب المقال ده لأنه بيفتح جروح أعتقد أنها شفيت
كل الأماكن مش ملكنا
إحنا اللى بندى الأماكن الدفء والجمال
احنا اللى بنخلى البيوت سكن حقيقى
وطبعا انتى عارفة ازاى بتكونى دافئة فى ك الأماكن
العيب مش فى الأساس والجدران والألوان
العيب فى السكان
Report - Delete
Mahmoud El-nagar wrote
at 1:25pm on January 19th, 2008
افتكر اني قريت مقوله لمفكر استرالي بيقول "وطنك حيث يكون قلبك"..فهمت المقوله دي في البدايه علي ان الأنسان مش لازم يكون ليه وطن معين وده كان طبعا جاي علي هوايا جدا من باب اني برفض فكرة الأستقرار والثبات ..
بس بعد فتره لقيت ان ممكن يكون ليها معني تاني..وهو ان كل مكان في الدنيا ممكن يكون وطنك طالما قدرت تلاقي فيه الحب والدفيء اللي كل انسان بيدور عليه..
مش عارف مقالتك يا اميره بتاكد اي معني فيهم...بس اي من المعنين دول بيرضيني..
Amira Abdalla wrote
at 11:22pm on January 19th, 2008
ياسلام يامحمود يانجار - كل يوم - من خلال التواصل معاك بتثبت لي ان اختياراتي في اصدقاء الفيس بوك صحيحه وجميله - الحقيقه المعنيين اجمل من بعض - وطنك حيث يكون قلبك - ربما تحمله معك مثلما تحمل قلبك وتسير - ربما يكون في اي مكان تجد فيه الدفء والحب اللذي تحلم به وتتمناه - ربما يكون كل مكان تجد فيه الحب والدفء - انا كمان مش عارفه مقالتي بتآكد انهي معني فيهم او كلهم - كل واحد يحسها بطريقته وانا اللي حسيته كتبته - لكن المعاني اللي انت شاورت عليها دافيه اوي !!!
إرسال تعليق