( 1 )
ماكانت رجلي تدب في منزل جدتي لامي في اليوم الاول من ايام رمضان وانا طفلة صغيرة – في اللحظات الاخيرة قبل انطلاق مدفع الافطار وارتفاع صوت الآذان - حتي اهرع لغرفتها فاجدها جالسة علي سجادة الصلاة ترتدي علي رأسها " الغطفة " البيضاء وتمسك بسبحتها الكهرمانية تتمتم بالادعية فارتمي في احضانها وانام علي قدميها اناشدها " ادعيلي يانينة " مثلما سمعت امي تطالبها كثيرا فكانت تهز رأسها بالموافقة وتربت علي ظهري وتمسح علي رأسي المرة تلو الاخري تلو الثالثة وهي تتلو في اذني بصوتها الحاني ايات القرأن تستعيذ بها من الشيطان الرجيم ومن الحسد والحاسدين ومن الناس "البطالة " فاذا بالخدر يسري في جسدي واكاد انام في "حجرها " وهي " تملس" علي ظهري ورأسي بحنان عذب جميل وتردد بصوتها الحنون الادعية وتقرأ الايات و"المعوذتين" ونكاد نغيب انا وهي عن الوجود متوحدين في عالمها التقي النقي الجميل يحيط بنا صوت الشيخ محمد رفعت الرخيم الجميل ينبعث من الراديو الخشبي الكبير في صالة المنزل يملآ الدنيا وقتها ورعا وتقوي يختلط بصوت جدتي الحاني وادعيتها الصادقة و سرعان ما نفيق علي صوت الآذان عاليا " الله واكبر ... الله واكبر " وعلي صخب ضجة بقيه العائلة ونداءاتها تستدعيها وتفتقدها وهي الام الكبري لكل الاجيال التي تنتظرها في صالة المنزل وحجرة الطعام واكاد اقفز من مكاني استجابة للنداءات اللحوحة فتقبض علي ذراعي وهي تختم ادعيتها و"تملس" علي رأسي للمرة الاخيرة ثم تتركني اخرج من الغرفة وتبقي هي مكانها تصلي ركعات المغرب الثلاث وركعات السنة وتمر علي سبحتها بالادعية للجميع و"الصحة والستر " ثم ترفع " غطفتها " من فوق رأسها وتخرج لعائلتها بابتسامه مشرقة متفائلة جميلة تحييهم وهم جالسين علي مائدة الطعام ينتظروها بشوق ولهفة ترحب بهم " كل سنه وانتم طيبيين ... اتفضلوا ... اتفضلوا .... " فيعم الصخب الجميل المكان وتتدافع الايدي تغرف من هذا الطبق وذاك تتابعهم جدتي بسعادة وحب وترحيب دافيء وكرم حاتمي و " كل سنه وانتم كلكم طيبين " !!! وهكذا تركت جدتي لامي علي اليوم الاول من ايام رمضان بصمتها علي قلبي حنانا دافئا جميلا وايمانا ورعا وحبا جارفا وادعية من القلب الصادق " لباب السما " فاذا ماغادرت دنيانا ورحلت منذ سنوات بعيدة وحين تغيرت الدنيا ومات الاحباء وهجر الاحفاد البيت الكبير لم يعد في الذاكرة لليوم الاول من شهر رمضان الا لمساتها الحانية وصوت انفاسها المتتابعة وتمتمات كلماتها و" ادعيلي يانينة " ....
(2 )
حين فتحت باب شقتنا – وانا طفلة صغيرة - ووجدت جدتي لابي امامي تحيط بها الحقائب والصفائح و" قفف " العيش الفلاحي حتي صرخت فرحة وادركت ان شهر رمضان قد هل علينا بايامه ولياليه الجميلة فجدتي لابي رحمها الله عاشت وماتت في منزل الاسرة الريفي القابع في احد القري الصغيرة بدلتا النيل ولم تغادره للاقامة في أي مكان اخر سواء بمنزل أي من اولادها او في حضن أي من بناتها رغم كل الضغط والالحاح المستمرة مبينة للجميع بحسم ووضوح ان منزلها اولي بها ويحتاج اليها وان المنزل مفتوح لمن يرغب في الاقامة معها او الراحه من ارهاق القاهرة او الغضب من الزوج او الزوجه و" اهلا وسهلا بيكم في أي وقت " واكدت انها لن تغادره ابدا الا الي قبرها المجاور له وقد كان !!! وعاشت جدتي قدر ماعاشت متمسكة بموقفها فلم تغيره الا في شهر رمضان من كل عام باعتباره شهرا "مبروكا" يستلزم الجمع العائلي للاحساس بقيمته وفرحته " وهو رمضان يجوز الا باللمة " فكانت تحزم امتعتها وتستأجر سيارة تحمل فيها كل ما اعدته من اطايب المأكل والمشرب من خيرات الريف وصناعته المنزلية من " زتون مخلل ومربي ورد وجزر احمر وسمنه بلدي ومرتة وعيش مرحرح وبيض بلدي وبط وشعرية فلاحي وفطير مشلتت وقشدة صابحة وجبنه دايرة ودقة سمسم ولبن بخيره " وتنزل علينا في القاهرة تقضي معنا كل ايام الشهر الكريم توزع وقتها وحبها وعطائها الفياض وعطاياها وهداياها الوفيرة وحواديتها المدهشة بين منازل ابناءها بالعدل والقسطاط فتقيم لدي كل منهم عدة ايام تمنحهم فيها السعادة والحميمية والحب الجارف و" لمة " العائلة ، وقد كان مقدم جدتي لمنزلنا عيدا فتجلس وسطنا وتجمع حولها بقيه الابناء والبنات والاحفاد والاقارب فيتبدل حال العائلة المنشغل افرادها كل بنفسه ويعم علي ابناءها السعادة والسرور فيتبادلوا الزيارات و" العزومات" والحب العميق ويعيشوا ايام رمضان ولياليه مرحا وفرحا في كنف جدتي التي علمتنا الصلاة والصوم وتلاوة القرأن وسماع ادعية النقشبندي و" الف ليلة وليلة " في الراديو واهم من هذا كله فاضت علينا بذكرياتها قصص وحكايات جميلة عن طقوس رمضان في قريتنا وامسيات المدح النبوي في الدوار واحتفالات خاتمه القرأن واحتساء القرفة الساخنة واعداد موائد الافطار للفقراء وقوافل الاطفال تلهو بالفوانيس و" ادونا العادة " وادعية الفجر وصوت الكروان يشق عنان السماء و" الملك لك لك " ... وهكذا منحتنا جدتي لابي مذاقا خاصا للشهر الكريم وتركت صوتها الرخيم وهي تتلو القرأن يؤنسنا في الليالي الموحشة ومازالت لكزاتها الحانية توقظنا مع دقات طبلة المسحراتي لتناول السحور فنقفز من اسرتنا الدافئة لاحضانها الاكثر دفئا وقد آثرت جدتي لابي وبعد عمر مديد منحت فيه كل من حولها السعادة الحقة الرحيل عن دنيانا في اواخر شهر رمضان في المرة الوحيدة التي بقيت في منزلنا ولم تأتي الينا وكأنها قررت الاحتفاظ لنا في منازلنا برمضان الجميل وكنوز ذكرياتها الجميلة وهاهي السنين مرت وهدمت الاسرة منزلها الريفي وباعت انقاضه وذكرياتنا بالورق البخس فلم يبقي لنا من هذا العالم الجميل الا ذكريات جدتي تؤنسنا وتهون علينا ايامنا نستجلب منها الفرحة والسعادة مع مقدم شهر رمضان و" ادونا العادة !!" ..
( 3 )
اعتادت بناتي حين يدق جرس الباب وقت انطلاق آذان المغرب بالضبط ونحن جالسين علي المائدة نستعد للافطار ان يصرخن بفرحة " كوكي جت " فامي رحمها الله ورغم دعوتي لها طوال الوقت بقضاء كل ايام شهر رمضان معنا ورغم الترحيب الصادق لزوجي بها دائما ورغم الحاح البنات المستمر الذي لاينقطع بدعوتها للافطار يوميا كانت تؤثر الا تخطرنا بميعاد قدومها وتبتسم دائما في وجوهنا حين نكشر غاضبين من رفضها المستمر لدعوتنا "والله حاجي ، حاجي " فكنا نقضي كل الايام ننتظرها انتظارا محببا وفي يوم سعيد ولاسبابها الخاصه كانت "تطب" علينا وقت الافطار بالضبط دون ان تخطرنا مسبقا بميعاد قدومها " اصلي مش عايزة اتعبكم !! " وكانت تدخل علينا بالسعادة علي وجهها " مش قلتكم حاجي !! " تحمل خيراتها حلويات اصناف واشكال " قلت بعد الاكل نحلي " ومعها البن المحوج الغامق والبلح المحشو لوز و" دول شوية فاكهة يادوبك " ومعها " الراديو" مضبوط علي البرامج والمسلسلات المحببة لها وتجلس وسطنا تعزم علينا بالاكل كأننا في ضيافتها وتعمل الشاي بنفسها "ماانا ماعملتش حاجة في الاكل " وترفع اطباق المائدة وتغسل الفاكهة وتقشر الموز لابنتي وتناشدني "قوم نامي وماتشليش همي انا حاقعد مع البنات " وقبل ان ننتبه لوجودها وقبل ان نشرب القهوة التي احضرت " بنها " الطازج تمسك حقيبتها وتستعد للرحيل وهي تبتسم في وجوهنا " ماانا حاجي تاني .. " وتودعنا وترحل !!! وهكذا عاشت امي قدر ماعاشت " خفيفة " لاترهق احدا ولا تتعب احدا وتمنح الجميع من نفسها ولاتأخذ منا أي شيء ولاتنتظر الا رضانا ولاتحلم الا بسعادتنا ، لذا حين الم بها المرض العضال وهي في سن النضج والعطاء والشباب المستمر ودخلت للمستشفي تستعد للرحيل من الدنيا المرهقة في نهايه شهر شعبان من سنوات عدة وسمعت وانا جالسه بجوارها علي فراش المرض في الاذاعة ان رمضان سيبدأ علينا وهي راقده في المستشفي لاحول لها ولاقوة انهالت دموعي احسه رمضانها الاخير فنظرت لي نظرة عتاب وابتسمت تطمئني وهمست بصوتها الوهن "مانا حاخرج من المستشفي وحاخف وحاجي افطر معاكم زي كل سنه !!! " لكنها في هذه المرة لم تصدق ولم تخف ولم تأتي للافطار معنا مثل كل سنه وتركت لي فراغا كبيرا لم يملئه احد وكرسي خاوي لم يجلس عليه غيرها ودموعا معلقة في عيوني تنتظر اقل هفوة لتسقط حارقة علي وجنتي التي اعتادت امي ان تقبلني عليهما تبثني حبها وحنانها وهي جالسة بجواري علي المائدة "مش قلت لك حاجي " وهاهو رمضان علي الابواب يدق لنفتح له احضاننا وها انا اقف علي عتبته ابثها شوقي وحبي وحنيني واشتياقي وافتقادي وانني مازلت انتظر عطاياها الفياضة ومازلت احن لحضنها وقبلاتها وامومتها الجارفة ومازلت انتظر دقاتها علي الباب وقت الافطار ومازلت انتظر نغمات صوتها المرحة وهي تجلس وسطنا ومعنا ترحب بنا و" تضايفنا " وانها " وحشتني قوي قوي " وان رمضان بدونها " وحش قوي قوي " وانني مازلت اسمع في اذني كل يوم من ايام رمضان وقت الافطار صوت بناتي الفرح " كوكي جت ، كوكي جت !!!"
الفقرة الاخيرة – حاولت الكتابة عن " امجد " وكمين الزعفرانة ، وحاولت الكتابة عن " البابا " واقتباساته ، وحاولت الكتابه عن الفوضي المرورية ومعاناتنا في الشوارع ، وحاولت الكتابه عن الغربة والسفر والحنين للوطن ، لكني امي وجدتي وذكرياتهما الحميمة في شهر رمضان طغوا علي كل المواضيع فافسحت لهما المجال وجلست في حضرتهما طفلة صغيرة تسمع قصصهما الجميلة للمرة المليون بسعاده وفرح !!!
الجملة الاخيرة – مع احترامي للصين وفوانيسها الالكترونية مازلت احب الفانوس النحاس وزجاجه الملون ويأسرني ضوءه الخافت واحسه بقايا زمن اصيل اندثر تحت ركام الزيف المبهر !!!
الكلمة الاخيرة - كل عام ونحن جميعا طيبين !!!
ماكانت رجلي تدب في منزل جدتي لامي في اليوم الاول من ايام رمضان وانا طفلة صغيرة – في اللحظات الاخيرة قبل انطلاق مدفع الافطار وارتفاع صوت الآذان - حتي اهرع لغرفتها فاجدها جالسة علي سجادة الصلاة ترتدي علي رأسها " الغطفة " البيضاء وتمسك بسبحتها الكهرمانية تتمتم بالادعية فارتمي في احضانها وانام علي قدميها اناشدها " ادعيلي يانينة " مثلما سمعت امي تطالبها كثيرا فكانت تهز رأسها بالموافقة وتربت علي ظهري وتمسح علي رأسي المرة تلو الاخري تلو الثالثة وهي تتلو في اذني بصوتها الحاني ايات القرأن تستعيذ بها من الشيطان الرجيم ومن الحسد والحاسدين ومن الناس "البطالة " فاذا بالخدر يسري في جسدي واكاد انام في "حجرها " وهي " تملس" علي ظهري ورأسي بحنان عذب جميل وتردد بصوتها الحنون الادعية وتقرأ الايات و"المعوذتين" ونكاد نغيب انا وهي عن الوجود متوحدين في عالمها التقي النقي الجميل يحيط بنا صوت الشيخ محمد رفعت الرخيم الجميل ينبعث من الراديو الخشبي الكبير في صالة المنزل يملآ الدنيا وقتها ورعا وتقوي يختلط بصوت جدتي الحاني وادعيتها الصادقة و سرعان ما نفيق علي صوت الآذان عاليا " الله واكبر ... الله واكبر " وعلي صخب ضجة بقيه العائلة ونداءاتها تستدعيها وتفتقدها وهي الام الكبري لكل الاجيال التي تنتظرها في صالة المنزل وحجرة الطعام واكاد اقفز من مكاني استجابة للنداءات اللحوحة فتقبض علي ذراعي وهي تختم ادعيتها و"تملس" علي رأسي للمرة الاخيرة ثم تتركني اخرج من الغرفة وتبقي هي مكانها تصلي ركعات المغرب الثلاث وركعات السنة وتمر علي سبحتها بالادعية للجميع و"الصحة والستر " ثم ترفع " غطفتها " من فوق رأسها وتخرج لعائلتها بابتسامه مشرقة متفائلة جميلة تحييهم وهم جالسين علي مائدة الطعام ينتظروها بشوق ولهفة ترحب بهم " كل سنه وانتم طيبيين ... اتفضلوا ... اتفضلوا .... " فيعم الصخب الجميل المكان وتتدافع الايدي تغرف من هذا الطبق وذاك تتابعهم جدتي بسعادة وحب وترحيب دافيء وكرم حاتمي و " كل سنه وانتم كلكم طيبين " !!! وهكذا تركت جدتي لامي علي اليوم الاول من ايام رمضان بصمتها علي قلبي حنانا دافئا جميلا وايمانا ورعا وحبا جارفا وادعية من القلب الصادق " لباب السما " فاذا ماغادرت دنيانا ورحلت منذ سنوات بعيدة وحين تغيرت الدنيا ومات الاحباء وهجر الاحفاد البيت الكبير لم يعد في الذاكرة لليوم الاول من شهر رمضان الا لمساتها الحانية وصوت انفاسها المتتابعة وتمتمات كلماتها و" ادعيلي يانينة " ....
(2 )
حين فتحت باب شقتنا – وانا طفلة صغيرة - ووجدت جدتي لابي امامي تحيط بها الحقائب والصفائح و" قفف " العيش الفلاحي حتي صرخت فرحة وادركت ان شهر رمضان قد هل علينا بايامه ولياليه الجميلة فجدتي لابي رحمها الله عاشت وماتت في منزل الاسرة الريفي القابع في احد القري الصغيرة بدلتا النيل ولم تغادره للاقامة في أي مكان اخر سواء بمنزل أي من اولادها او في حضن أي من بناتها رغم كل الضغط والالحاح المستمرة مبينة للجميع بحسم ووضوح ان منزلها اولي بها ويحتاج اليها وان المنزل مفتوح لمن يرغب في الاقامة معها او الراحه من ارهاق القاهرة او الغضب من الزوج او الزوجه و" اهلا وسهلا بيكم في أي وقت " واكدت انها لن تغادره ابدا الا الي قبرها المجاور له وقد كان !!! وعاشت جدتي قدر ماعاشت متمسكة بموقفها فلم تغيره الا في شهر رمضان من كل عام باعتباره شهرا "مبروكا" يستلزم الجمع العائلي للاحساس بقيمته وفرحته " وهو رمضان يجوز الا باللمة " فكانت تحزم امتعتها وتستأجر سيارة تحمل فيها كل ما اعدته من اطايب المأكل والمشرب من خيرات الريف وصناعته المنزلية من " زتون مخلل ومربي ورد وجزر احمر وسمنه بلدي ومرتة وعيش مرحرح وبيض بلدي وبط وشعرية فلاحي وفطير مشلتت وقشدة صابحة وجبنه دايرة ودقة سمسم ولبن بخيره " وتنزل علينا في القاهرة تقضي معنا كل ايام الشهر الكريم توزع وقتها وحبها وعطائها الفياض وعطاياها وهداياها الوفيرة وحواديتها المدهشة بين منازل ابناءها بالعدل والقسطاط فتقيم لدي كل منهم عدة ايام تمنحهم فيها السعادة والحميمية والحب الجارف و" لمة " العائلة ، وقد كان مقدم جدتي لمنزلنا عيدا فتجلس وسطنا وتجمع حولها بقيه الابناء والبنات والاحفاد والاقارب فيتبدل حال العائلة المنشغل افرادها كل بنفسه ويعم علي ابناءها السعادة والسرور فيتبادلوا الزيارات و" العزومات" والحب العميق ويعيشوا ايام رمضان ولياليه مرحا وفرحا في كنف جدتي التي علمتنا الصلاة والصوم وتلاوة القرأن وسماع ادعية النقشبندي و" الف ليلة وليلة " في الراديو واهم من هذا كله فاضت علينا بذكرياتها قصص وحكايات جميلة عن طقوس رمضان في قريتنا وامسيات المدح النبوي في الدوار واحتفالات خاتمه القرأن واحتساء القرفة الساخنة واعداد موائد الافطار للفقراء وقوافل الاطفال تلهو بالفوانيس و" ادونا العادة " وادعية الفجر وصوت الكروان يشق عنان السماء و" الملك لك لك " ... وهكذا منحتنا جدتي لابي مذاقا خاصا للشهر الكريم وتركت صوتها الرخيم وهي تتلو القرأن يؤنسنا في الليالي الموحشة ومازالت لكزاتها الحانية توقظنا مع دقات طبلة المسحراتي لتناول السحور فنقفز من اسرتنا الدافئة لاحضانها الاكثر دفئا وقد آثرت جدتي لابي وبعد عمر مديد منحت فيه كل من حولها السعادة الحقة الرحيل عن دنيانا في اواخر شهر رمضان في المرة الوحيدة التي بقيت في منزلنا ولم تأتي الينا وكأنها قررت الاحتفاظ لنا في منازلنا برمضان الجميل وكنوز ذكرياتها الجميلة وهاهي السنين مرت وهدمت الاسرة منزلها الريفي وباعت انقاضه وذكرياتنا بالورق البخس فلم يبقي لنا من هذا العالم الجميل الا ذكريات جدتي تؤنسنا وتهون علينا ايامنا نستجلب منها الفرحة والسعادة مع مقدم شهر رمضان و" ادونا العادة !!" ..
( 3 )
اعتادت بناتي حين يدق جرس الباب وقت انطلاق آذان المغرب بالضبط ونحن جالسين علي المائدة نستعد للافطار ان يصرخن بفرحة " كوكي جت " فامي رحمها الله ورغم دعوتي لها طوال الوقت بقضاء كل ايام شهر رمضان معنا ورغم الترحيب الصادق لزوجي بها دائما ورغم الحاح البنات المستمر الذي لاينقطع بدعوتها للافطار يوميا كانت تؤثر الا تخطرنا بميعاد قدومها وتبتسم دائما في وجوهنا حين نكشر غاضبين من رفضها المستمر لدعوتنا "والله حاجي ، حاجي " فكنا نقضي كل الايام ننتظرها انتظارا محببا وفي يوم سعيد ولاسبابها الخاصه كانت "تطب" علينا وقت الافطار بالضبط دون ان تخطرنا مسبقا بميعاد قدومها " اصلي مش عايزة اتعبكم !! " وكانت تدخل علينا بالسعادة علي وجهها " مش قلتكم حاجي !! " تحمل خيراتها حلويات اصناف واشكال " قلت بعد الاكل نحلي " ومعها البن المحوج الغامق والبلح المحشو لوز و" دول شوية فاكهة يادوبك " ومعها " الراديو" مضبوط علي البرامج والمسلسلات المحببة لها وتجلس وسطنا تعزم علينا بالاكل كأننا في ضيافتها وتعمل الشاي بنفسها "ماانا ماعملتش حاجة في الاكل " وترفع اطباق المائدة وتغسل الفاكهة وتقشر الموز لابنتي وتناشدني "قوم نامي وماتشليش همي انا حاقعد مع البنات " وقبل ان ننتبه لوجودها وقبل ان نشرب القهوة التي احضرت " بنها " الطازج تمسك حقيبتها وتستعد للرحيل وهي تبتسم في وجوهنا " ماانا حاجي تاني .. " وتودعنا وترحل !!! وهكذا عاشت امي قدر ماعاشت " خفيفة " لاترهق احدا ولا تتعب احدا وتمنح الجميع من نفسها ولاتأخذ منا أي شيء ولاتنتظر الا رضانا ولاتحلم الا بسعادتنا ، لذا حين الم بها المرض العضال وهي في سن النضج والعطاء والشباب المستمر ودخلت للمستشفي تستعد للرحيل من الدنيا المرهقة في نهايه شهر شعبان من سنوات عدة وسمعت وانا جالسه بجوارها علي فراش المرض في الاذاعة ان رمضان سيبدأ علينا وهي راقده في المستشفي لاحول لها ولاقوة انهالت دموعي احسه رمضانها الاخير فنظرت لي نظرة عتاب وابتسمت تطمئني وهمست بصوتها الوهن "مانا حاخرج من المستشفي وحاخف وحاجي افطر معاكم زي كل سنه !!! " لكنها في هذه المرة لم تصدق ولم تخف ولم تأتي للافطار معنا مثل كل سنه وتركت لي فراغا كبيرا لم يملئه احد وكرسي خاوي لم يجلس عليه غيرها ودموعا معلقة في عيوني تنتظر اقل هفوة لتسقط حارقة علي وجنتي التي اعتادت امي ان تقبلني عليهما تبثني حبها وحنانها وهي جالسة بجواري علي المائدة "مش قلت لك حاجي " وهاهو رمضان علي الابواب يدق لنفتح له احضاننا وها انا اقف علي عتبته ابثها شوقي وحبي وحنيني واشتياقي وافتقادي وانني مازلت انتظر عطاياها الفياضة ومازلت احن لحضنها وقبلاتها وامومتها الجارفة ومازلت انتظر دقاتها علي الباب وقت الافطار ومازلت انتظر نغمات صوتها المرحة وهي تجلس وسطنا ومعنا ترحب بنا و" تضايفنا " وانها " وحشتني قوي قوي " وان رمضان بدونها " وحش قوي قوي " وانني مازلت اسمع في اذني كل يوم من ايام رمضان وقت الافطار صوت بناتي الفرح " كوكي جت ، كوكي جت !!!"
الفقرة الاخيرة – حاولت الكتابة عن " امجد " وكمين الزعفرانة ، وحاولت الكتابة عن " البابا " واقتباساته ، وحاولت الكتابه عن الفوضي المرورية ومعاناتنا في الشوارع ، وحاولت الكتابه عن الغربة والسفر والحنين للوطن ، لكني امي وجدتي وذكرياتهما الحميمة في شهر رمضان طغوا علي كل المواضيع فافسحت لهما المجال وجلست في حضرتهما طفلة صغيرة تسمع قصصهما الجميلة للمرة المليون بسعاده وفرح !!!
الجملة الاخيرة – مع احترامي للصين وفوانيسها الالكترونية مازلت احب الفانوس النحاس وزجاجه الملون ويأسرني ضوءه الخافت واحسه بقايا زمن اصيل اندثر تحت ركام الزيف المبهر !!!
الكلمة الاخيرة - كل عام ونحن جميعا طيبين !!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق