كنت قد غادرت الوطن الاسبوع الماضي مكرهة مجبرة – علي نني عيني – اياما معدوات لعمل ضروري لا يملك احد غيري القيام به ، غادرته وقبلت بناتي وودعت احبائي وكأنني سأغيب دهورا وقبل ان تخطو قدماي بعيدا عن بوابة المطار وقبل ان يختم ضابط الجوازات "باسبوري" اجتاحني حمي الغياب عن الوطن فازداد توتري وقلقي وتلاشي احساسي بالامان بل وقفزت الدموع في مقلتي اتصور نفسي وحيدة غريبة في بلاد لااعرفها لتنهمر وبسرعة قطرات دموعي حارقة عنيفة كمثل الآمطار التي سقطت علي رؤوسنا في نهايه مارس وفي غير ميعادها!!!
غادرت الوطن وداخلي احساس بالاسر احمله معي اينما ذهبت فكل بلاد الدنيا مهما كانت جميله هي سجني الذي لااحبه ولا املك التآلف مع تضاريسه ورائحته ووجوه بشره ، غادرت الوطن وانا احلم بالعودة الفورية اليه تمنيا لراحة البال والنوم العميق الذي لا " اطوله " الا تحت هذه السماء ، غادرته بل وقبل ان اغادره اشتهيت العودة اليه والافراج عني من محبسي وغربتي بل وتمنيت الا اغادره وقتها وابدا خوفا من اشباح الغربة التي لاتظهر لي الا في لياليها الموحشة الباردة الطويلة !!
" ياعزيز عيني وانا بدي اروح بلدي " انا لااحب السفر خارج الوطن ولااقوي علي فراقه فالحياة التي احبها واسعد بأيامها – مهما كانت صعبة او قاسية او معقدة - هي العيش هنا في هذا الوطن الذي يحتلني ولا املك قوة الاغتراب عنه فانا لااعرف للحياة – ولو كانت حياة رغدة واكثر راحة ورفاهية واقل ارهاقا - أي معني اوقيمة اذا كانت في مكان اخر ، بل ان فكرة السفر ذاتها تولد داخلي احساس بالحنين الفياض الجارف يخلع قلبي من مكانه ويستبدله بحجر مشحوذ موجع يظل طوال ايام سفري ولياليه يوخزني يذكرني بوحدتي وانفضاض الاحباء عني فالوطن هو دفء الرحم الذي لا املك الحياة خارجه فأنا كمثل الاسماك خلقها الله لاتحيا الا في الماء وخلقني لا احيا الا في هذا الرحم فاذا ماغادرته اعيش قسوة اللفظ من شرنقة الحنان الفطري وافقد طعم الحياة ومعني العيش وقيمة وجودي بل وقيمة الحياة ذاتها ، واذ كنت وانا في هذا العمر احن لحضن امي رحمها الله وافتقد دفئه واتمني العودة اليه احساسا متصلا بالامان والطمأنينة فأن حضن الوطن ورحابته يهون علي – ولو قليلا - غياب امي وانقطاع الحبل السري بيني وبينها وغيابي عنه عقوبة توقع عليا – بغير ذنب – عقوبة بالحرمان من الحنان والاحتجاز المستمر في زنازين الاغتراب المظلمة الباردة !!!
وعلي الرغم من انني سافرت عشرات المرات خارج الوطن ولاسباب مختلفة – وحيدة او مع اصدقائي او اسرتي واحبائي - الا انني لم اشفي ابدا من المرض العضال الذي يصاحبني كل سفرياتي فاعراضه تتسلل لنفسي وجسدي لحظة اقترابي من المطار واستنشاق رائحة الغربة المسيطرة علي اجواءه فتتعثر الانفاس في صدري وتضطرب دقات قلبي ويشحب لون وجهي وتزداد عصبيتي وافقد عقلانيتي ويصبح كل حلمي ومن قبل السفر الفعلي هو العودة الي الملاذ الذي اعرفه واحبه وكأني ساعود بنفسي التائهة التي لااعرف التواصل معها لنفسي التي اعرفها ولحياتي التي احبها وللشوارع التي تشاركني ذكرياتي والبشر الذي احبهم !!!
وقد فكرت كثيرا في حالتي وحاولت فهمها – لكني لم افلح – اسأل نفسي دائما لماذا لااقوي علي الرحيل عن سماء الوطن ولماذا اعود مهرولة مسرعة الي حضنه ؟؟ لماذا لم اصدق القدماء وقت قالوا "في السفر سبع فوائد " ولماذا انا – وانا فقط - لم اعثر علي أي فائدة من تلك الفوائد في أي رحله من الرحلات الكثيرة التي قمت بها؟؟!! لماذا انا – وانا بالذات – لا اري في بلاد الدنيا علي تنوع جغرافيتها وتاريخها وبشرها اماكن جميلة – بالنسبة لي - تغريني علي الرحيل اليها ولو علي سبيل السياحة والاقامة المؤقته ؟؟؟ لماذا خلقني الله بقدرة منعدمة علي الترحال والهجرة وحال بيني وبين اية امكانية للتعايش – مجرد التعايش – مع الاماكن الغريبة ؟؟؟ لماذا لم اشارك بقية البشر رغبتهم في السفر الي البلاد الاخري التي لايعرفونها هؤلاء البشر الذين يحلمون بالسفر ويسعون اليه فان سافروا اثروا البقاء وان عادوا حلموا بالرجوع ؟؟؟ لماذا انا مختلفة عنهم جميعا !!!
كنت خارج الوطن في بلد جميلة جدا ومنظمة جدا وطبيعتها خلابة جدا وبشرها جادون جدا وناجحون جدا ومتقدمون جدا ، بلد شوارعها نظيفة جدا ومرورها منظم جدا وكل شي فيها " جداجدا " لكنها لم تفلح في ترويضي لحبها فبقيت كل ايامي فيها وليالي احن لابي وافتقد حبه الفياض ولوعته علي غيابي واحن لبناتي وافتقد احتياجهم لي واحن لاصدقائي وافتقد حنانهم معي ، احن لزملائي في العمل وافتقد للحظاتي الحميمة معهم!!!
عشت في ذلك البلد اياما قليلة اكره ال " جدا جدا " واحن لكل تفاصيل الوطن التي نعيشها ولانشعر ابدا قيمتها ولاخسارة الحرمان منها ، احن لبحر العين السخنة الذي شاركني همومي وبددها بلونه الجميل وصفاءه الرائع ، احن للنيل الذي شهد دموعي وطيب خاطري بتسامحه ورزازه المنعش العذب ، احن للشوارع التي قاسمتني ذكرياتي وشاركتني اسراري المحببة ، واحن للاشجار ذات الورود الربيعية الحمراء تنعش نفسي وتبهجها ، واحن لامطارنا الحانية – كقلوبنا - التي تغسل متاعبي وشعري وتترك قطراتها قبلات صغيرة علي وجنتي ، احن لنغماتنا الشرقية التي تألفها اذني ويطرب لها قلبي ونفسي ، احن للاهرامات الثلاث التي تقف بشموخها دليلا علي وجودنا الحضاري علي هذة البقعة من كوكب الارض منذ الاف السنوات لم نغادر ولن نغادر ابدا ، احن للنكتة المصرية الساخرة اللاذعة وافتقد " خفة الدم" الفطرية التي حبانا الله بها ، احن للامثال الشعبية العاقلة قليلة الكلمات فصيحة المعاني ذخيرة تراثية ملقاة علي ارصفتنا كنوزا نغرف منها وقت الاحتياج ولاتنضب ابدا ، عشت في ذلك البلد وشعبه ال " جدا جدا " احن لبلدتنا الريفية بشجيرات النعناع البلدي التي تنشر اريجها اصالة جميلة ، احن لشجيرات الورد البلدي الاحمر كلون وجنات العذاري الخفاري ، احن لشجرة الجميز المثمرة العجوز تميل باغصانها تحتضن مقبرة جدتي الحبيبة ، احن لفروع لشجرة التوت الهرمة وصبار التين الشوكي ، احن لمقبرة امي وهواها النقي اللي " بيرد الروح " !!! عشت هناك احن لكل المصريين الذين لااعرفهم وروحهم الحية الاصيلة بشرا طيبين يسعون بكل جهدهم وجديتهم للاستمرار اللائق في الحياة الصعبة القاسية واحبهم "جدا جدا "!!! لقد سافرت وانجزت عملي وعدت مسرعة يكويني الحنين لكل الاشياء الجميلة التي لم استطع تخبئتها في صدري وعبور كل الحدود بها وشحنها معي في سفري لتهون علي ايام الغربة وساعات الوحدة والسماء الضبابية الرمادية والحياة ال " جدا جدا " !!! عدت اطير علي اجنحة الغرام لحضن امي وحضن الوطن بخريطته السمحة بنيلها الفياض ودلتاها الرحبة الخصبة تفتح ذراعيها تحتضنا جميعا !!!!
الفقرة الاخيرة – اعرف كل عيوب الوطن ومساويء الحياة فيه والمتاعب التي نلاقيها في ايامه والمرارات التي نعانيها في لياليه واتعذب مثل الجميع من كل هذا واكثر لكني احبه ولااقوي علي العيش بعيدا عنه بل واراه رغم كل شيء اجمل الاماكن ولا اقول الاوطان فللانسان وطن واحد فقط !!!
الجملة الاخيرة – لم تكن امي اجمل النساء ولكنها كانت احبهم الي قلبي وكانت لحظة الوصل بيني وبينها دهرا عذبا لاينتهي ابدا !! ولن تفلح كل نساء الارض في تعويضي عن غيابها او الغياب عنها !! ومثلها الوطن يسكن في قلبي في مكانه لايباريه احدا فيها ابدا !!!
السطر الاخير – الحياة ال " جدا جدا " مريحة وسهلة لكن بعض الناس خلقهم الله للشقا الجميل وانا منهم !!!
الكلمة الاخيرة – سرت في الشوارع الغريبة اغني لنفسي " علي بلد المحبوب وديني "
الاربعاء 5 ابريل 2006
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق