الخميس، 4 سبتمبر 2008

" الاحساس بالذنب و..... البطاطس المحمرة !!!!

كنت في بداية حياتي العملية اعمل سته ايام في الاسبوع واخصص لنفسي واسرتي يوم الجمعة فقط اجازة اسبوعية وكان ذلك دائما علي حساب راحتي التي لم اهتم بها قدر اهتمامي بنجاحي المهني واثبات وجودي في العمل لكن ذلك لم يتناقض و اهتمامي الرهيب بطفلتي الصغيرة " وقت ذاك " ، كنت في بدايه حياتي العملية ابذل مجهودا كبيرا لايجاد موطيء قدم لي في معترك الحياة التي دخلتها بكل طاقتي احلم بالتحقق احلم بالنجاح في المحاماة وكتابة الروايات والمقالات الصحفية والدفاع عن الحريات وحقوق المرأة والعمل النقابي والف مليون مجال اخر دون ان يغيب عن ذهني لحظة – مجرد لحظة – انني ام احب طفلتي منتهي الحب اهتم بها واسعد بصحبتها واراعيها و" اشيلها في نني عيني !!!" فرغم كل الجهد الذي كنت ابذله في عملي والوقت الذي اقضيه فيه لم انسي لحظة حقوق طفلتي الصغيرة ولم اتهاون مع نفسي بشأنها ابدا ، فكنت امنحها بوعي وقصد ومنتهي الحب كل بقية ساعات نهاري بعد انتهاء العمل – علي حساب نفسي وساعات نومي واهتماماتي الاخري - واخصص لها يوم الاجازة الاسبوعية واقضيه معها بالطريقة التي تحبها تارة امام حمام السباحة وهي تتعلم العوم وتغطس عشرات المرات وهي تمسك انفها وتصرخ تنادينا سعيدة كي اتفرج علي " شطارتها " وتارة اخري في حديقة النادي ادفعها علي الارجوحة عاليا مرة وثانية والف استمتع بصوت سعادتها وضحكها عاليا وتارة ثالثة اقبع امامها بالساعات وهي ترسم "شخابيطها" الجميلة علي افرخ الورق الابيض اللامع وانصت لها وهي تشرح فنها السيريالي " دي بابا ودي انتي ودي كوكي " ولانها كانت طفلة وحيدة "وقت ذاك" كنت اكرس كل جهدي للبحث عن صديقات او معارف لهن اطفال في مثل سنها فاتقرب اليهن واسعي لصداقه اطفالهن وابنتي واخفف عنهن العبء الثقيل وارسم لطفلتي واطفالهن الخطط المسلية الجميلة يوم الاجازة الاسبوعية فأخذ الاطفال جميعا ومعهم ابنتي يوما لحديقة الحيوان والثاني للملاهي والثالث لبيت امي احتسي معها القهوة ونترك للاطفال الغرفة الخالية يصرخون فيها وهم يتعاركون بالمخدات علي "راحتهم " !!
وحين دخلت ابنتي المدرسة وعادت لي في اسبوعها الدراسي الاول باكية تلومني " اشمعني كل الاطفال بتاكل بطاطس محمرة سخنه الا انا " انصتُ اليها باهتمام فقد كانت تشرح لي بطريقتها الطفولية البريئة احتجاجها علي غيابي في العمل وقت عودتها من المدرسة وتفسر لي ان وضعها هذا يختلف عن وضع معظم زميلاتها اللاتي كن يجدن امهاتهن " ربات البيوت " بالمنزل ويجدن علي مائده الطعام " بطاطس محمرة سخنة " وقتها فسرت ابنتي حرمانها من " البطاطس السخنه " باعتباره نتيجه لغيابي الطويل في العمل وهو غياب اوجعها فبكت في حضني تشكو لي همها !! وقتها وخزني قلبي وبكيت انا الاخري في حضنها واحسست بالذنب التقليدي وتأنيب الضمير الذي تشعر به معظم النساء العاملات في رحلة حياتهن العملية فرغم كل الجهد الذي تبذله النساء العاملات داخل المنزل في رعايه الاسرة والاطفال وخارجه لاثبات وجودها وتحقيق نجاحها بل وزياده دخل الاسرة وهو امر ينعكس اول ما ينعكس علي الاطفال الا ان كل النساء العاملات يشعرن بذنب خفي لانهن يخرجن للعمل ويتركن اطفالهن وهو ذنب تاريخي متأصل في نفسيتهن دعمه – لعقود طويلة – و أكده اللوم الاجتماعي الذي يحاصر النساء العاملات ويدينهن باعتبارهن قساه القلوب يتركن اطفالهن الصغار " ياحرام " ويخرجوا !! وكأن خروج النساء العاملات من منازلهن جريمة وذنب يلزم لومهن عليه رغم انهن لايخرجن للترفيه او النزهة بل لعمل ضروري يستتبعه بذلهن لجهدا مزدوج ما بين المنزل و "الشغل " واعباءهما المختلفة عكس خروج " ربات البيوت " من منازلهن وهو امر طبيعي – لامجال للتعقيب عليه من وجهة نظر المجتمع وحكماءه - ولو كان ذلك الخروج للترفيه وزيارات الاصدقاء والجيران و" جلسات النميمة " وشرب القهوة و" قلب الفنجان " او لقضاء مشاوير السوق او " مشيت رجلي شوية لان نفسي طابق عليا " !!!
لحظتها وبدون تفكير قررت ارضاء لابنتي الصغيرة وجبرا لمشاعرها الحزينة تقليص ايام عملي وضممت الخميس للجمعة كاجازة اسبوعية وعاهدت نفسي علي تخصيص ذلك اليوم لها شخصيا ووعدتها ب"البطاطس المحمرة "!! وقد اربكني هذا القرار وضغط عليا وزود عدد ساعات عملي اليومية فاليوم الذي خصصته "لها وللبطاطس المحمرة " توزعت ساعاته علي بقية ايام الاسبوع لكني كنت راضية و"مصالحة نفسي " لانني مسحت دموع ابنتي ورفعت عنها الضغط النفسي لغياب الام عن المنزل وقدمت لها – بخلاف كل ما اقدمه من حب وجهد واهتمام– طبق بطاطس ساخنة كل يوم الخميس !!! ولا اخفي عليكم سعادتي وقت كانت تعود من المدرسة فتلقي بحقيبتها وتسألني بشك وكأنها لاتصدقني "فيه بطاطس محمرة سخنه ؟؟" ولاتنتظر اجابتي وتهرول للمطبخ فتجد البطاطس الساخنه في انتظارها فتبتسم وتطمئن وتبدل ملابسها وتجلس امامي علي المائدة الصغيرة تأكل بمتعه وسعاده وامتنان لي انا الام العظيمة – من وجهة نظرها في تلك اللحظة – التي لم تبخل عليها بشيئا وقدمت لها كل ماحلمت به وتمنته!!!
وهكذا سارت حياتي وابنتي الصغيرة في صراع يومي لم نكن انا وهي السبب فيه بل كان المجتمع الذي لم يصدق بحق ان "البنت زي الولد " ولم يؤمن بحق المرأة في العمل ولم يؤمن بدورها في التنمية الاقتصادية ولم يؤمن او يصدق ان الحياة تحتاج لسواعد الرجال والنساء وجهدهما معا في العمل وداخل الاسرة وان " القفة ام ودنين يشلوها اتنين " وأمن فقط بدورها كأم وزوجة واحتفي بهذا الدور وقدره علي حساب امتعاضه من النساء اللاتي لم يقنعن بهذا الدور ولم يقبلن الاسر في السياج التقليدي اما تحت ضغظ الحاجه الاقتصادية او الرغبة في تحقيق الذات والنجاح او الامرين معا ، كان المجتمع وسلوكياته المتناقضه هي السبب في الصراع الدائم بيني وبين ابنتي الصغيرة فهي تقارن حالها بحال زميلاتها وصديقاتها وتجد فارق كبير لم تفهمه وقتها ولم تفهم اسبابه " لماذا انا مختلفة عن امهات صديقاتها ، لماذا هن في المنزل دائما وانا اخرج صباحا واعود عصرا ، لماذا لا اجلس معها ساعات طويله اذاكر مذاكرتها واحفظ دروسها ، لماذا لا امسك يديها واكتب بها الاجابات الصحيحة و"احل " لها الواجب ؟؟ لماذا لاازور مدرستها ولا اصادق مدرساتها ولااختار فصلها ولااجلب الهدايا الغاليه للمدرسات كي "يهتموا " بها ، لماذا لا اقضي نهاري اتجول بين غرفه المدرسات ومكتب السكرتارية " اوصي " عليها ؟؟ ولم تقنع باجاباتي علي اسئلتها البسيطة فلم تكف عن تكرارها ولم ترضي باجاباتي التي لم اكف عن تكرارها " انا بشتغل وهما قاعدين في البيت ، ليه باشتغل ؟؟ لاني بحب الشغل !! لاني عايزة اعمل حاجه مفيدة !! لاني عايزة اشتري ليكي حاجات كتير وكل اللي نفسك فيه !! لاني عايزة انجح ويكون لي دور في المجتمع !!" كل هذا لم تفهمه ابنتي ولم يرضيها ولم يحل التناقض الكبير الذي تراه امام عينها طوال الوقت ولاتجد له تفسيرا " اشمعني انت واشمعني انا" وهكذا القي هذا المجتمع - الذي اخرج النساء للعمل ولم يبذل جهدا في احترام ذلك العمل ولا قيمته ولاعائده لا علي المجتمع ولا علي الاسرة ، هذا المجتمع الذي اخرج النساء للعمل كضرورة موضوعية ثم عاد وطالب بعودتها للمنزل وهو يدرك انها دعوة مستحيلة التحقيق بشكل واقعي قصد منها حصار النساء العاملات و" كسر شوكتهن " وافهامهن – خلافا للحقيقة – ان خروجهن للعمل هبة من الرجال يتعين دفع ثمنها جهدا اضافيا في المنزل واهتماما مبالغ فيه مع الاطفال ومشاركة متساوية في تحمل الاعباء المالية للاسرة و"شيلي نفسك امال بتشتغلي ليه ؟؟ "– القي هذا المجتمع الذي تناقضت رأسه وافكاره مع واقعه واحتياجاته فخرجت النساء لسوق العمل بمختلف اشكاله وهي محتلة باحساس مميت بالذنب لاتعرف مصدره وهي محاصرة بتربص يقظ يراقبها ويراقب اسرتها واطفالها وينتظر لها الفشل بل ويتمناه فاذا طلقت سيدة عاملة كان الذنب ذنبها " ماهي طول النهار برة " او العيب عليها " ماهي مشغوله بروحها " وعظيم اللوم من نصيبها " مستقويه بفلوسها " واذا ما فشل ابن السيدة العاملة في دراسته او "سقط " فهو مظلوم لم يجد من يعتني به و" العيب علي امه " وان فشل ابن ربة البيت في دراسته فهو خائب او " لعبي " والعيب عليه !!! – القي هذا المجتمع بكل تناقضاته علي رأسي ورأس ابنتي وادخلنا في صراع طويل انهكني وهدد في بعض الاحيان وجودي المهني وكاد يدفعني يأسا او احباطا او حبا في ابنتي الصغيرة وقت ذاك للتقاعد المبكر و" بلاش دوشة !! " ...
وكانت الطامة الكبري يوم انفجرت ابنتي ليلة امتحان سنه " تانية " ابتدائي في البكاء الغاضب وهي تتشاجر معي بصوتها "المسرسع" لاني لااحبها بالقدر الكاف ولا اهتم بها بالقدر الكاف وانها "زعلانه مني ومخاصماني !!" وقد اصابتني كلماتها الغاضبة المتلاحقة كطلقات الرصاص في قلبي بألم عظيم ولمعت الدموع في عيني واحسست ان الحياة ظالمة وان ابنتي التي لااكف عن بذل الجهد لصالحها تفتري عليا بل وتبتزني في مشاعري وقبل انفجاري المضاد فيها وانا مرهقة ومتوترة وجالسة بجوارها ساعات طويلة "نسمع المحفوظات " نظرت لوجهها البريء وقسماته الغاضبة واشفقت عليها وسألتها بهدوء ظاهري " ليه ؟؟ " فشرحت لي غضبها بكلمات مجدولة بنحيب حزين بأنني لا اقف لها امام باب الامتحان انتظرها مثل كل الامهات واراجع اجاباتها مثل كل الامهات واصحح لها اخطائها مثل كل الامهات !! وان " كل الممهات بتحب بناتها الا انا !!!! " يومها احسست ان " البحر من امامكم والعدو من خلفكم " وانه قد ان الآوان لفتح ملف " انا وبقية الممهات " مرة واحدة والي الابد وجلست امسح دموعها واقبلها من وجنتيها الحمراوتين اللامعتين واخذتها في حضني وهمست لها بكلام اكبر كثيرا من سنوات عمرها واعقد كثيرا من براءتها وان " انا بحبك قوي قوي ولكن ... انا بشتغل وبحب شغلي وحافضل اشتغل .. وشغلي ده ليا وليك ونجاحي نجاح لينا كلنا .... واني مش لازم اتصرف زي بقيه الناس وبقيه الممهات ... مش لازم احبك بطريقتهم ... واني انا مش بامشي ورا الناس ولا اعمل زي ما بيعملوا ... انا مابحبش سياسة القطيع " ورفعت ابنتي حاجبيها ولم تفهم " شفتي خرفان تيتة ، بيمشوا ورا بعض ازاي ، ان جري واحد جريوا كلهم ورا بعض " ضحكت وفهمت وهزت رأسها وقلدت صوتهم و" مأمأت " فاكملت بثقة " انا بقي مش زي الخروف اللي بيجري ورا بقية الخرفان ولا يمشي وراهم ولا بمأمأ معاهم !!! " ضحكت ابنتي اكثر واكثر " انا لي طريقتي في كل حاجه ، اللي باقتنع بيه بعمله ، لما مايكونش فيه فايده من حاجه مااعملهاش ولو كان كل الناس بيعملوها !! " ابتسمت ابنتي وكأنها سحرت وكأن كل قناعاتي وايماني باختياراتي انتقل لعقلها وقلبها بسهوله ويسر وارتمت في حضني " وباحبك قوي قوي يمكن اكتر من كل الممهات .... " وافقتني وهي تقبلني " لكن بطريقتي انا .... " ...
ومرت الايام وعدت السنوات وعشت مع ابنتي تجربة امومة مختلفة عن " بقية الممهات " لا اقلدهن ولا اتصرف مثلهن وفارقت ابنتي كثيرا فوحشتني دائما ولم انهرها ابدا مثل كل ربات البيوت زهقا " علي اوضتك واقفلي عليكي مش عايزة اسمع صوتك " علي العكس حين اعود للمنزل بعد ايام العمل المرهقة اناديها شوقا واسمع لها اهتماما واناقشها في امورها ومشاكلها واداعبها واشاكسها واذكرها دائما ب " انا مابحبش سياسة القطيع " فتضحك حتي تدمع عيناها كأنني القيت عليها مزحة لطيفة وتنظر لي نظرة عميقة المغزي عميقة الدلالة فنضحك معا !!!
وكبرت ابنتي وصارت علي وشك التخرج من كليه الهندسة وناجحه ومتفوقة وجميلة وانجبت لها اخت اصغر جميله وموهوبة ولها احلام وطموحات وغبت عنهما كثيرا بسبب عملي وانشطتي المختلفة وعدت اليهما بلهفة وحب احسوا به وقدروه وقدروني وفهموا ان " ماما مختلفة " لكن "بتحبهم قوي قوي .... لكن بطريقتها " فسارت الاثنتين علي دربي فلم يقبلن ابدا سياسة القطيع ولم يسرن في طرقها وصنعت كل منهما لنفسها شخصيه خاصه متميزة وأمنت كل منهما اكثر مني بحق المرأة في العمل وحقها في التحقق المهني والنجاح وان " البنت زي الولد ويمكن احسن " وحلمت كل منهما احلاما طموحة عظيمة ادعو الله من اعماق قلبي ان يساعدهن علي تحقيقها "اللهم امين " ........
الفقرة الاخيرة – لم اقف لابنتي – انا وملايين النساء العاملات - علي باب لجنه الامتحان وحرمتها من هذا الترف ليس انشغالا او اهمالا او عدم اكتراث بل ايمانا مني بعدم جدوي تلك الوقفة ورفضا مني لمسايرة الناس فيما لامعني له ولا قيمة منه ووفرت وقتي مع بناتي لاشياء اكثر قيمة ومعني واهمية !!!
الجملة الاخيرة – اخرج المجتمع النساء للعمل ولم يبذل جهدا مع افراده لتقبل ذلك الخروج والايمان به وتحمل نتائجه !! الم يحن الوقت لبذل الجهد الجماعي لدعم النساء وترسيخ الاحترام الاجتماعي لعملهن واشاعة الفخر بهن وبكل نجاحاتهن !!!
الاربعاء 12 يوليو 2006


هناك تعليق واحد:

اميرة بهي الدين يقول...

نشرت هذه المقاله علي الفيس بوك فجائتني هذه التعليقات

Ebtsam Sabry wrote
at 12:25am on February 12th, 2008
هفضل اقولك دايما كلامك تحفة وشخصيتك جميلة اوي يا اميرة انا هارية ماما كلامك عنك علطول بتقولي نفسي اشوف اميرة اللي مابتبطليش كلام عنها !!!!!


Ahmed Magdy Ahmed wrote
at 9:30am on February 12th, 2008
i love it


Noha Essmat wrote
at 11:44am on February 13th, 2008
بجد دمعتينى