الثلاثاء، 2 سبتمبر 2008

" بنك الحظ .... و.... حظ البورصة "

في الاسبوع الماضي خرج احد اصدقائي من شركة اوراق مالية بعد ان تابع علي شاشاتها حركة الاسهم في البورصة شاحب الوجه ازرق الشفتين غزير العرق كأن قلبه سيدق دقته الاخيرة ويتوقف ، سألته ماذا بك ؟ لم يقوي علي الرد وجفف عرقه وابتلع حبة دواء تحت لسانه ورفع عينيه للسماء كأنه يستنجد بها من الافلاس الذي يهدده ، احسست الاشفاق عليه وتمنيت له الثراء والربح الذي سينظم دقات قلبه ويهدء من روعه ، سألته "خسران قوي" لم يرد فتره واذ حاول خرج صوته متحشرجا كأنه في النزع الاخير ويعاني سكراته اشفقت عليه اكثر وعلي سنوات عمره الخمسين وثروته الضئيلة التي انفق سنوات العمر في "تحويشها " ثم طمع في زيادتها وبسرعه "واشمعني احنا " فسلم اذنه لبعض المجربين الذين نصحوه "مافيش غير البورصة " وحكوا له قصصهم الناجحة في البورصة التي حققت لهم وفي وقت قصير ارباح مروعة تتجاوز اصل استثماراتهم ، ولان صديقي شأنه شأن كل المصريين يتمني ان تأخذه الدنيا علي جناحها وتطير به الي السماء السابعة فيترك لاولاده من بعده السمعة الطيبة و" قرشين " يستروهم ، طاوعهم بحذر واشتري بعض الاسهم الشهيرة بمبلغ ضئيل فضرب الحظ السعيد ضربته وحقق ربحا عاليا اخرجه عن تحفظه المعهود فسحب معظم امواله واشتري اكثر واكثر واهتم بالبورصه وشركاتهما واسهمها بل وتجول بين محبيه داعيا للاستثمار في البورصة مروجا لثرواتها شارحا " الناس كلها سحبت فلوسها من البنوك واشترت اسهم " موضحا " الفايدة في البنوك قليلة جدا ، بينما الاسهم " ويكمل حديثه بقسمات وجه توضح للجميع قدر الخسارة التي تفوتهم كل لحظة لايستثمرون في الاسهم !!! لكن الحظ السعيد لا يستمر ابدا فهبطت اسعار الاسهم ثم تأرجحت ثم هبطت ثم ارتفعت قليلا فلم يبع صديقي اسهمه انتظار لتعويض خسائره وقبل ان يفيق هبطت ثانيه فازداد فزعه واحس بتحويشة العمر تتأكل علي الشاشات وتطير بعيدا عن ايديه فتملكه الرعب وارتبكت دقات قلبه وجف حلقه وتمني مع نفسه ان ترتفع اسعار الاسهم قليلا فيبيع كل ما يملك ويأخذ امواله و"يجري" او ترتفع الاسعار كثيرا فيحقق الارباح التي كان يحلم بها و" توبه من دي النوبة " في هذا الوقت قابلته يتصارعه احساسان متناقضان ان يبيع اسهمه بالخسارة ويجري فيضمن اقل القليل او ينتظر ارتفاع الاسعار فيعوض خسائره وربما يحقق مكاسب تعوضه الكآبة التي فردت اجنحتها علي قلبه ونفسه وايامه ولياليه !!! نظرت اليه اتأمل الحالة التي هو عليها وكادت النصائح ان تخرج من فمي تزيد همه لكن "العايط علي الفايت قلة عقل " والارتباك الذي ارتسم علي وجهه والقرار الصائب الذي لم يعرف الاهتداء اليه والحيرة التي عقدت لسانه منعوني من نصيحته التي لن يعيها مهما كانت ثمينه وغاليه ، احسسته وقتها وكأنه طفل صغير تائه ينتظر من ينجده فذكرني برفاق طفولتي وابناء عمومتي الصغار وقت انغماسنا في لعبة " بنك الحظ " والفكرة الرئيسية في تلك اللعبة هي منح جميع اللاعبين – في البداية – الفرص المتساوية للنجاح والفشل ثم تركهم للحظ يحدد مصائرهم فاذا ببعضهم يصعد للسماء سعيدا منتشيا والغالبيه تسقط الي اسفل السافلين مفلسة تعاني الفقر والعوز!!! هي لعبة جماعية يتصارع فيها الاطفال حول الثراء السريع واكتناز الاموال و يديرها اكثرهم حنكة فيقبض علي بنك اللعبة في يده ليوزع في البداية الثروات علي اللاعبين اوراقا نقدية زاهية ملونة ثم يعود ومع مرور الوقت ليجبي الضرائب ويقرض المتعسرين ويرهن ثرواتهم وفي نهاية اللعبة يصادر ممتلكاتهم ويشهر افلاسهم !! وتبدأ اللعبة بتنقل اللاعبين الاطفال فوق رقعة اللعبة الملونه عن طريق "النرد" وارقام حظه العشوائية فاذا ما وقف أي منهم فوق بلد او مدينه سارع بشرائها قبل بقيه زملائة آملا في احتكار المربعات العقارية تداعبه احلام الثراء ومع مرور الوقت تزداد اللعبة سخونة وتتباين مواقف اللاعبين فيزداد بعضهم ثراءا وتتراكم ثروته النقدية وممتلكاته العقارية ويكنز امواله علي حساب بقية اللاعبين التعساء ضحايا حظه السعيد الذين تتراكم عليهم الديون فيزدادوا فقرا وينتهي بهم المطاف مفلسين فاشلين خارج اللعبة..
ولعبة "بنك الحظ " اقتبسها المصريين من اللعبة الاجنبية الشهيرة "المنوبولي " بمعني "الاحتكار" تلك اللعبة التي اخترعها صاحبها ليسلي اطفال المجتمعات الغربية ويقتل وقت فراغهم الطويل وفي ذات الوقت يعدهم بذكاء ودهاء للتعامل المبكر مع السوق الرأسمالي وآلياته من بيع وشراء واقتراض ورهن ونجاح مالي وافلاس موجع ، يعدهم بذكاء لفكره الربح السريع والثراء الفاحش وتحقيق الاحلام المستحيلة عن طريق ضربات الحظ المتعاقبة القدرية تلك التي ترفع بعض الناس الي عنان السماء وتقهر غالبيتهم وتدفنهم في اعماق الارض ، لعبة رسالتها واضحة وخبيثة بل ومؤذية "ان النجاح والفشل المالي لاعلاقه به بالبراعة اوالاقتدار او الكفاءة وان الامر لايعدو الا حظا سعيدا يسعد صاحبه فيثري ثم يطغي او حظا تعسا يشقي صاحبه فيفلس ثم ينهار ثم يخرج اساسا من اللعبة!!!!" وكانت امي رحمها الله تكره هذه اللعبة وتأمرنا انا وابناء عمومتي بحسم وجدية بتركها و"اقروا لكم كتاب والا اعملوا حاجه مفيدة بدل ماانتم عمالين تتخانقوا كدة " لكننا لم نطاوعها ابدا وانشغلنا اكثر واكثر في تلك اللعبة نسعي تارة لتدعيم الآنتصار وتاره لتجنب الهزيمة والثآر منها !! وكان بعضنا يأخذ اللعبة مأخذ الجد وينسي اللهو فيها فيتأثر بنجاحه ويطرب له أو يبكي من فشله ويبتأس منه واكم منا صرخ وبكي وغضب وتسارعت دقات قلبه وانهال عرقه الغزير ومزق الرقعه الورقية وبعثر الاوراق النقدية الزائفة في الهواء احتجاجا علي سوء حظه وبئس طالعه وهو الذي لم يدخر جهدا للفوز لكن الحظ يعانده ويضيق عليه الخناق ، واكم منا صرخ فرحا وطار في الهواء سعيدا منتشيا بعد ان هز النرد بقوة مرة تلو المرة متضرعا لله ان ينصره ويمنحه الارقام التي يحتاجها ليشتري هذا البلد او ذاك فاذا بالحظ يطاوعه وينحي له ليمتطيه فينطلق زاهيا في طريق ثراءه فيقهر بقيه اعداءه اللاعبين ويعايرهم بحظه السعيد وفشلهم ثم يتحكم في اللعبة ويكيد لهم وفي النهايه ينتصر عليكم جميعا انتصارا ساحقا ، وكم سالت دموعا حارة من المهزومين الفقراء الذين اعلنت اللعبة القاسية هزيمتهم واندحارهم وافلاسهم وضياع احلامهم واخرجتهم من حلبتها ..
كانت امي تتابع معاركنا الطاحنه حول الرقعة الملونة ثم تلوح بايديها في وجوهنا غاضبة منا " عيال تافهة صحيح لو الفلوس بتيجي كده بالحظ ماكانش حد غلب !!، والنبي لو ركزتم في مذاكرتكم بجد تعملوا فلوس اد كده !! بلا حظ بلا خيبة وبكرة تفتكروني !!" وها انا الان اتذكر قول امي ونصيحتها الغالية بعد ان مرت ايام الطفولة ببرائتها والمراهقة بمشاعرها المرهفة وانشغلنا بالمذاكرة الجادة ثم العمل الدؤوب ونسينا احلام الثراء السريع و"ضربات الحظ" وادركنا في رحلة الحياة الواقعية القاسية ان "بنك الحظ" مجرد لعبة ورقية تسرق وقت الاطفال وتبدد سنوات طفولتهم في اوهام بعيدة عن الواقع الحقيقي ودروسه الموجعة ، هانا اتذكر قول امي بعد الخوض في معترك الحياة القاسي وادراك ان النجاح والفشل ثمرة جهد الانسان وفعل ايديه ولايصادفا الانسان ابدا بسبب عشوائي غير مفهوم فالحظ السعيد هو نتاج المجهود الحقيقي المخلص الذي يمنحه الانسان لعمله فيعود عليه بالنجاح والتقدير واحيانا ببعض المال ، والحظ التعيس هو نتيجة الاهمال وعدم المبالاة التي يعيشها الانسان في حياته فينعكس عليه احباطا وانكسارا وفقرا ...
اعود لصديقي واتسائل معكم لماذا ذكرتني بورصة "الحظ" التي يلعب فيها بنقوده الحقيقية و"تحويشه عمره" بلعبة "بنك الحظ" التي ادمناها صغارا ، لااعرف ماهو وجه الشبه والتماثل بين اللعبتين ، هل التشابه يأتي من انتظار الحظ وضرباته في كل منهما ، هل يأتي من حلاوة احاسيس النجاح ومرارة الفشل والهزيمة في كل اللعبتين هل يأتي من الدموع التي تطل من عين المهزوم المفلس هنا وهناك ام يأتي من نشوة الانتصارات التي تذهب بعقول المنتصرين هنا وهناك ، هل يأتي من الادرنالين الذي ينبعث من اجساد المشاركين في هذه اللعبات الخطيرة فتتأثر دقات قلوبهم وتتوتر اعصابهم ؟؟!! ربما فانا لااعرف بدقة وجه الشبه بين البورصة وبنك الحظ فهل تعرفون انتم؟؟!!!! لكن ولانني من الجيل الذي سمع عبد الحليم حافظ يشدو بكلمات صلاح جاهين " وبقرش الادخار هنهزم الاستعمار" ولاني سمعت من جدتي قصة بائعه اللبن واحلامها في الثراء التي ضاعت منها بسبب عثرة غير مقصودة ، ولاني سمعت عن المثل الانجليزي " easy come easy go" ولانني لا احب المقامرة ولااتحمل مخاطرها ولااسعد بمكاسبها ولاني صدقت قول امي "بلا حظ بلا خيبة !!" لم انشغل ابدا بالبورصة واحلام الثراء منها ولم اصدق الدعايات التي يطلقها البعض حولها ولم اؤمن بالمليارديرات الذين نشأوا في احضانها ولم اتابع قيمة اسهمها وانكببت علي عملي طريقا وحيدا في الحياة لجني الاموال ، انكببت علي عملي احاول اجادته فاحظي بالتقدير والاحترام وربما " ببعض المال" !! فاتي ان اخبركم انني لم اشتري ابدا لبناتي " بنك الحظ " عملا بقول امي رحمها الله " بلا حظ بلا خيبة " !!!
الفقرة الاخيرة – نهي احد العقلاء والدته صاحبة السنوات السبعين عن شراء اسهم بالبورصة وقال "ميزانيات الشركات دي صنعة ، كل اللي بيتكتب فيها كذب وفي نفس الوقت كل اللي بيتكتب فيها صدق ماحدش يقدر يفهم حاجة وماحدش يقدر يمسك عليهم حاجة " ..
الجملة الاخيرة – قال احدهم " البورصة في كل حته بتقع ، عادي يعني !!" لكنه لم يقل ماذا تفعل في المستثمرين الصغار وقت وقوعها !!
السطر الاخير – قال رجل عجوز يعيش من فوائد البنوك علي مدخرات حياته " انا لااتحمل الخسارة ولاعايز المكسب " !!
الكلمة الاخيرة – قال احد الخبثاء " الحكومه السبب في تدافع الناس علي البورصة والسبب في وقوعها " لكني لم اصدقه !!!
الاربعاء 29 مارس 2006

ليست هناك تعليقات: