الجمعة، 5 سبتمبر 2008

" لحم ... ودم ... "

خلق نجيب محفوظ في رواياته الكثيرة عالمه الدرامي الجميل واستنبط اجواءه الخاصه من احياء القاهرة القديمة فانبعثت من بين اوراق كتبه روائح البخور والتوابل وعبق المنازل العتيقة والعجين المخبوز وهمست سطوره المكتوبة بصوت الابتهالات الدينية ونداءات البائعه الجائلين مختلطا بتكبيرات الاذان ممزوجا بصرخات المجذوبين وادعيتهم ووقع خطوات احصنه الحناطير ونغمات اجراسهم وصهللة صاجات بائعي العرقسوس ودقات مطاحن البذور وصرير الابواب الخشبية الثقيلة وخرجت من بين صفحات رواياته شخصياته المتميزة ذات شكل وقسمات وملامح خارجية متفردة شخصيات حية تتحرك في عالمها كـأنها تمر بجوارك وتحف ملابسها بملابسها وتخترق رائحه عرقها انفك شخصيات حية كأنك قابلتها وتعرفها كأنك تحبها او تكرها او تحب جزء منها وتكره الجزء الاخر شخصيات حية تحسه استخرجها من ذاكرتك او وجدانك او قصص طفولتك فجاءت رواياته عالما مكتملا حيا له صوت متميز ونغمات آثرة ورائحة نفاذة يشكل فيه المكان والزمان والبشر مفردات متكاملة لعالم لايصنعه الا نجيب محفوظ المبدع العظيم ، واذا كان الكثيرون قد كتبوا عن نجيب محفوظ وعالمه الجميل واستعرضوا نماذجه وشخصياته وحللوا نماذجه واذ كنت انا مجرد قارئة محبة لنجيب محفوظ عاشقة لعالمه ومفرداته وابداعه الجميل فأنني استسمحكم – اليوم في هذه المقالة – بالخوض في عالم نجيب محفوظ من باب " المرأة " ... فاذا كان نجيب محفوظ قد ابدع في خلق عوالمه وشخصياته عموما فقد ابدع – حسبما احس - اكثر واكثر في خلق نماذجه النسائية بدقه وواقعية ملفتين للنظر فتجاوزت شخصياته الفردية اطارها المرسوم وتحولت لنموذج اجتماعي حي من لحم ودم ومازال!!!! واول واهم هذه النماذج " الست امينه " بطلة ثلاثية بين القصرين وقصر الشوق والسكرية وقد برع نجيب محفوظ في صياغة وصناعة تلك البطلة الي الحد الذي صارت فيه نموذجا اجتماعيا وكأنها شخصيه حقيقية من لحم ودم "الست امينة" الزوجة المصرية التقليدية المستكينه القابلة لحياتها الراضية بنصيبها التي تعتبر نفسها ظلا لزوجها وظيفتها الوحيدة طاعته ومطاوعته والسير خلفه والدعاء له وتقبل قيوده واحكامه والاعتراف امامه بهفواتها وتقبل عقابه وانتظار رضائه عليها !!! هي السيدة التي تعيش حياتها كما قدر لها المجتمع تنجب الاطفال وتربيهم وتقوم باعمال المنزل وتعد الفتيات للزواج وتدعو للابناء بالنجاح والفلاح وتتوسط بينهم وبين ابيهم ولاتنحاز لهم الا فيما يرضي ابيهم ولا تساندهم الا فيما يقبله زوجها ويوافق عليه ، هي الزوجة المطيعة التي لاتناقش زوجها ولاتجادله ولاتغضب منه ولاتقوي في حاله غضبه اوثورته عليها او علي ابناءها - علي صواب كان او خطأ – لاتملك الا حبه والدعاء له والاحتماء به وقد اعتادت – برضاء - الصمت دون غضب وقت يزجرها زوجها ووقت يتجاهلها ووقت يستخف بكلماتها واراءها!!!! هي الام بالفطرة والغريزة التي ربت ابن " ضرتها " بين احضانها واحتوته كبقية ابناءها ولم تميز بينه وبينه ولم تترك لمشاعر الغيرة الانثوية اي مجالا للجور عليه لصالح ابناء رحمها وهي التي احتضنت ابنتها قليلة الجمال والحظ وانصفتها علي الاخري الجميلة التي يتدافع حولها " الخطاب " وخصتها بالدعاء وافاضت عليها من صادق مشاعرها فصالحتها علي نفسها ووجها وقله جمالها ودعمت ثقتها بنفسها .."الست امينه" نموذج نسائي خاص جدا استخلصه نجيب محفوظ من الحياة البعيدة والقي به الينا وسط حياتنا نموذج حيا متفاعلا فاذا ببعض الشباب يتمني الست امينه زوجة له بديلا للشابات المتمردات المرهقات واذا ببعض الشابات يرفضن التشبه بالست امينه او التصرف مثلها !!! ورغم ان الست امينه ليست الا شخصيه علي الورق لكن الصدق والاخلاص والحميمية التي صنعها بها نجيب محفوظ والحب الذي افاض به عليها واحاطها به منحوها كيانا انسانيا شبه حقيقي فاحبها من احبها وحنق عليها من حنق عليها ونفر منها من نفر منها لكنها خرجت من صفحات الكتاب للعالم الرحب الحي وبقيت بيننا نتجادل حولها ومازالنا سنوات وسنوات!!!.. وثاني هذه النماذج "حميدة " تلك الفتاة الفقيرة الجميلة المتطلعة التي ترفض حياتها في " الزقاق " الصغير وتتمرد عليها وعلي ابناء جلدتها وترفض حياتهم وعاداتهم وتأبي الاستكانه لمصيرها المحتوم وسطهم وتحلم باحلام لاتقوي علي تحقيقها وتتطلع للهروب من طبقتها الاجتماعية التي ترفض بشرها وتأنف من البقاء وسطهم ومعهم ولاتعرف لنفسها سبيلا للفرار منهم ، تلك الفتاة التي تأبي منح نفسها لاهلها وحيها ووسطها الاجتماعي الفقير ولا تفكر الا في الهروب منهم وتتطلع في مرآتها الخاصه فتري جمالها وانوثتها اسلحتها الوحيدة التي لاتملك غيرها في الدنيا كنزا غاليا " تستخصره " في الحي المتواضع التي ولدت فيه وفي الحياة التي اعدت لها فاذا مااتيحت لها فرصه الفرار من الحياة التي ترفضها علي يد قواد محترف لا يقدم لها الا كلمات الحب الكاذبة والانحراف المشين فرت من مصيرها المحتوم وهربت لعالمه المزيف البراق الرخيص وزينت لنفسها السقوط في الهاوية باعتباره منتهي امالها في الحياة وباعتباره بديلا للحياة الطاحنه التي لن تعيش غيرها .. " حميدة " التي رسمها نجيب محفوظ بقسوة ولم يمنحها مشاعره فلم نمنحها مشاعرنا ولم يتعاطف معها فقسونا عليها ورفضنا تمردها وادنا سقوطها واعتبرناها "عبرة " ومثل للتمرد الشكلي الاجوف علي واقع قاسي يحاصرنا جميعا فلا نتبع خطاها ولانبع انفسها للشيطان مهما بدي جميلا متأنقا عذب الكلمات لان نجيب محفوظ كشف لنا في مرآة حميدة مصيرها الاسود وبين لنا قاع الجب السحيق الذي سقطت فيه ، " حميدة " نموذج نسائي ادانه نجيب محفوظ منذ السطر الاول وكشف ضعفه وزيف احلامه ومصيره المنحط الاختياري فنفرنا منه وتركها لنا معلقة في مشنقتها دليلا حيا يحذر من خطي طريقها وخطوات دربها !!! وثالث النماذج " احسان " الفتاة الفقيرة التي لم تجد لها ولا لاحلامها البسيطة مكانا في " القاهرة الجديدة " القاهرة المتوحشة الطاغية التي لاتحب الا اثرياءها ولاتنحاز الا لهم ولاتترك مكانا تحت ظلها لفقراءها المطحنونين بنار الطبقية المستعرة " احسان " الفتاة التي تحاصرها اسرتها بفقرها وبطاله عائلها وجوع صغارها وتقتل احلامها وبراءتها وتدفعها دفعها لطريق الغواية باعتباره مهربا للجميع من الفقر السحيق ومخرجا لابديل له من الواقع القاسي ولطماته ، " احسان " الفتاة التي احبت شابا ثوريا امن بالوطن ودافع عن فقراءه وكتب من اجلهم المنشورات واسس الجميعات السرية لكنه لم يقوي رغم كل ايمانه وقناعاته واحلامه علي انتشالها من الهاوية التي دفعت اليها ولم يقوي علي حمايتها من السقوط في احضان الطبقة الاعلي التي اغوتها للخروج من عالمها النظيف الفقير القاسي بتفاحة الاثم وقدمت لها اثمال الثراء واشترت منها عذريتها وشرفها وبراءتها بطعام الجياع وحراك اجتماعي مزيف وزوج مسحوق قبل ان يتركها علي فراشه لعشيقها متي اراد ومتي رغب !!! " احسان " الفتاة التي حاصرتها الظروف الاجتماعية القاسية واغلقت في وجهها ابواب الحياة الشريفة وفتحت امامها احضان الرزيلة لترتع فيها فاذا بها تسقط سقوطا مدويا واضحا فجا بلا زيف واذ باسرتها تقبل سقوطها وتدعمه وتحافظ عليه باعتباره مصدر عيشها ورغدها واذ بزوجها يعتلي جسدها سلما للصعود لعتبة الطبقة العليا التي ماكانت تفتح له بابها الا وقد باعها شرفه وشرف زوجته الضحية له ولاسرتها ولحبيبها الثوري العاجز وكلماته التي لاتغني ولاتسمن من جوع !! ورغم ان " احسان " هوت للسحيق ، الا ان نجيب محفوظ لم يلعنها في كلماته والتمس لها الاعذار وافقدها وعيها وارادتها وقت السقوط وبين قلة حيلتها ومصيرها المحتوم الذي طاردها وتمكن منها فاستجلب من عيوننا الدموع عطفا عليها وتضامنا معها ومنحها قلبنا وحزننا وكل الاسي عليها ، " احسان " التي سقطت بغير ارادتها فلم يدينها نجيب محفوظ وتركها امام ابصارنا ضحية تستحق العطف رغم وطأة سقوطها وكأنه يحذرنا من السقوط الذي ابتلعها في جب اشواكه ويهددنا ومازال !!!! ولايمكنني الحديث عن النماذج النسائية في ادب نجيب محفوظ دون ان الاشارة ل " نفيسة " الاخت التي حرمها الله من جمال الوجه ومنحها جمال القلب والنفس ومنحها مشاعر فياضة منحتها راضية صادقة لاشقائها ودفعت بهم بكل جهدها لصعود السلم الاجتماعي بعد ان اجبرتها الظروف القاهرة هي واسرتها للانحدار في اسفل درجاته ولان " نفيسة " محبة وجميلة بالمعني الانساني قبلت الانحناء لصالحهم ومنحتهم قروشها القليلة يتباهون بها وهم في نفس الوقت "يستعرون " منها ومن عملها وحين كشف سقوطها وهدد اسرتها التي سقطت من اجلها سعت بنفسها لنهايتها عقابا لنفسها وحماية لهم وهم رصيد عمرها الذي ضاع من اجلهم !!! ودون الاشارة ل "زنوبة " العالمة التي شبت في العالم السفلي ودرجت علي الانحراف فتطلعت للعفة والشرف بالمعني الاجتماعي المتعارف عليه فتركت كل عالمها المخملي خلفها وانحازت لزوج لم يقدم لها الا الاحترام التي حرمت منه ، ودون الاشارة ل" قرنفلة " الراقصة التي عجزت عن الرقص مرضا ففتحت مقهي شعبيا اجلس عليه نجيب محفوظ نماذجنا البشرية المختلفة من ساسه ومفكرين وطلبة ورجالا فارغي العقول والقلوب وغيرهم من محبي الوطن المخلصين واشركها في عالمهم وقصصهم ومشاجراتهم ودفء وجودهم ، تلك الراقصة التي منحت قلبها لطالب من رواد مقهاها احسته صادقا فمنحته حبها وامومتها وكل مشاعرها ، ودون الاشارة ل " زهرة " الخادمة في بنسيون التي حلمت بالتعليم سبيلا للرقي الاجتماعي في زمن " ارفع رأسك يااخي " وحلمت بالرجل الذي تحسه من " ثوبها " ولايبعد عنها الا خطوة بحكم منصبه الوظيفي فاذا بها يحاول استغلالها واستغلال مشاعرها فلا يبقي لها الا حلم التعليم سبيلا وحيدا لحياتها التي تتمناها وتحلم بها .... لايمكن تجاهل هذه النماذج النسائية التي منحهم نجيب محفوظ كل حبه رغم قسوه الظروف التي احاطت بهن ، منحن كل حبه وانتشلهن من الواقع القاسي الذي كان ينتظرهن ووضعن في طريقنا بكل الحب التي يستحقن !!! نماذج نسائية واقعية من " لحم ودم " ابدعها نجيب محفوظ وتركها خلفه في عالمنا وضمائرنا ووجداننا ، نماذج نسائية بشرية يعتريها الضعف ويشوبها الحزن وفقدان الامل ويقتلها الحلم والتمني و" اليد القصيرة " استجلبها نجيب محفوظ من الواقع القاسي ووضعها امام بصرنا فرضا ننظر اليهن ونتعلم منهن ونتقي شر سقوطهن ونلتمس الاعذار لهن ونحبهن ... ونحبهن !!!! الفقرة الاخيرة – تعلمنا من عالم نجيب محفوظ التماس الاعذار للاخرين !!! السطر الاخيرة – رحل نجيب محفوظ عن عالمنا القبيح وترك لنا خلفه عالمه الجميل !!

ليست هناك تعليقات: