كنت اسير في واحد من الشوارع الكبيره المشهوره في واحده من كبريات العواصم الغربيه ، تمطر السماء فوق رآسي رذاذ لاسع متلاحق وشمس صيفهم البارده تسطع بقوه في السماء العاليه صوره مرسومه فوق السحب الرماديه بلا اشعه حانيه كآنها ضرع جاف لايشبع ولا يروي ظمآ احسست الغربه تفترسني والوحشه تتملك نفسي واجتاحني الاحساس بالضياع كآنني طفله صغيره تائهه بين اقدام الكبار الغرباء ، تملكتني الرغبه في البكاء احس قسوه المدينه الغريبه تكاد تقبض علي روحي وتكتم انفاسي باجوائها الثقيله تسارعت دقات قلبي شوقا للحنان رآيتني اهرول بخطوات متعثره ضائعه بين الاناس الغريبه كآنني افر من برودهم اهرب من الجمود القابض علي ملامح وجوههم اتواري بعيدا عن رائحه انفاسهم قفزت الدموع في مقلتي معلقه لاتسقط احس المدينه الغريبه تحاصرني بغربتها وتحتجزني في اغترابي تمنيت لو اغمضت عيني وفررت من كل البرود الذي يحاصرني ومن كل الضباب الذي يلفني ومن كل الخواء يرن صداه في اذني والقيت نفسي في حضن امي الدافء تملكني الحنين الجارف لها ، افتقدتها ، اشتقت اليها ، تمنيت لو القيت برآسي المتعبه فوق كتفيها ، شمتت رائحه طيبتها في انفي ،احسست نعومه خدها تحت خدي ، سمعت دقات قلبها في اذني ، تمنيت لو تحتضني بقوه تكسر اضلاعي بين ذراعيها ، احستت دموعي المعلقه تكاد تسقط فوق كفيها وهي تمسح بهما فوق رآسي فوق شعري وهي " تطبط" علي خدي ، سمعت صوت اهازيجها المرحه يبدد كآبتي ، دخلت في احضانها اكثر واكثر سطعت ابتسامتها الوهاجه تبدد وحشتي وغربتي ووحدتي همست في اذنها "وحشتيني ياماما " ادخلتني ثانيه داخل رحمها و قبضت علي بين جدرانه الدافئه وروتني بماء حنانها العذب واحتوتني كآني جنينها الصغير يعيش وينمو بين احشائها وطنا حانيا ...... اه ياوطن ...... اشتقت اليك في البلاد التي لا اعرف شوارعها ولا افهم تضاريسها ولا احب لغتها ولا اضحك ل" نكتها " ولا تسعدني اناقه شوارعها ولا تآنق بشرها ... اشتقت اليك ياوطني خريطه كبيره طيبه يشقها نهر النيل القوي العفي يفيض حنان وحب خصب فياض يفتح ذراعيه صوب البحر يحتضن القادمين من البلاد البعيده يحتويهم بضلعيه الحانيين يسقيهم من ماء الجنه العذب يجري في عروقهم يختلط بدمائهم يحتلهم ويآسرهم في حضنه الواسع الحاني .... اشتقت اليك ياوطني لشوارعك التي اعرفها واحبها وافتقد بعدها واتآلم لغيابها التي نسير فيها مطمئنين بلا خوف يطاردنا وبلا وجل يربكنا وسط بشر طيبين يهدوك ابتساماتهم وحبهم الجارف لايتنظرون مقابل ولا يطمعون الا في الكلمه الطيبه تسعدهم وتجبر بخواطرهم ..... اشتقت اليك ياوطني لاناسك الطيبين المتعبين بحبك المرهقين من صعوبات حياتهم الاملين خيرا في المستقبل المتفائلين املا في المستقبل هولاء البشر الذين يمدون لبعضهم البعض يد العون يفتحون لك احضانهم لتبكي فيها لايسآلوك سببا ولا ينتظرون تفسيرا يهدهدوك بحنان حقيقي ويمسحون دموعك بطيبه آسره ويهمسون في اذنك يشجعوك لاجتياز محنتك التي لا يعرفون اسبابها ويؤكدون لك بايمان حقيقي وثقه مطلقه ان "بكره احسن من النهارده " وان " فرجه قريب " وان " اشتدي ياازمه تنفرجي " اشتقت لاناسك الطيبين الذين لم تنجح الايام الصعبه في تغييرهم ولم تفلح الظروف الطاحنه في تبدليهم وبقوا عبر العصور المتلاحقه مهما لاحقتهم المحن والمصائب والمصاعب بقوا اناس طيبين اولاد " نكته " جدعان محبين لبعضهم البعض وللحياة وللوطن ..... اشتقت اليك ياوطني لرائحه النعناع الاخضر الفواحة كآنها رائحه الخصوبة لرائحه الورد البلدي الاحمر الاسره كآنها الحب العاصف لرائحه زهور الجاردينيا كرائحه الحنان الفياض لرائحه الفل النقيه كرائحه البراءه لرائحه اللارنج النفاذه كرائحه الاعتداد بالنفس لرائحه الريحان القوية كرائحه الكرامة لرائحه التوابل في الخان العتيق كرائحه التاريخ القديم العظيم لرائحه الارض الطيبه كآنها رائحه الحياة المستمره ذاتها... اشتقت اليك ياوطني لصوت بائعيك الجائلين لصخب دقات الصاجات لبائع العرقسوس الهرم لصوت الكروان في لحظات النهار الاولي "الملك لك للك " لصخب التلاميذ في مدارسك وصرخات فرحهم لصوت ضحك البنات الخجل وهمسات قلوبهم الغضه لصوت عبد الحليم حافظ "بالاحضان يابلادنا ياحلوه بالاحضان " لصوت الشيخ محمد رفعت يؤذن لصلاه المغرب في ايام رمضان لصوت هديل الحمام فوق سطح جارنا العجوز لصوت دقات " الهون " تدوي بين صفحات روايه زقاق المدق لصوت الشيخ النقشبندي يردد علي اسماعنا اسماء الله الحسني " الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن " لصوت علي الحجار يئن " انكسر جوانا شيء وانطفت بعده المشاعر " لصوت بائعه الذره وهي تصوخ " المشوي " لصوت الموجات الصغيره تتلاحق خلف بعضها علي شواطيءالعين السخنه كضحات الاطفال المرحة لصوت المذياع يصرخ بقوه " هنا القاهرة " لصوت المزمار البلدي ينتفض فرحا لصوت محمد الكحلاوي ينشد " لاجل النبي لاجل النبي " لصوت ابله فضيله الدافيء يهمس لاطفالنا الصغار " غنوه وحدوته " لصوت المشجعين في مدرجات الكوره " المصريين اهمة " لصوت دفقات المياه العذبه تدور في السواقي العتيقه الهرمه لصوت جدتي وهي تمتم فوق سجاده الصلاة ساعه الفجر " الستر والصحه يارب " لصوت موسيقي علي اسماعيل ترقص علي نغماته فريده فهمي " اه ياليل ياعين .... اه ياليل ياعين " لصوت بوق بائع غزل البنات مجدول بفرحه البنات وصراخهم الجميل لصوت العصافير فوق شباك ليلي صديقتي لصوت زغرده النساء في افراحنا الشعبية يهللن " قولو لابوها ان كان جعان يتعشي " لصوت خضره محمد خضر تصرخ من اعماقها الما " الصبر ده للعاشقين احسن دوا " لصوت صفاره البحار فوق شط اسكندريه يستغيث لانقاذ غريق لصوت " طشه " التوم فوق طبق الفته يوم العيد لصوت الكورال يدوي " اسلمي يامصر " لصوت امي وهي توقظني هامسه " قومي ياحبيبتي حتتآخري علي المدرسه " ... مازلت اسير في البلاد الغريبه البارده لاعرف ناسها ولا احبهم ولا اجد في ملامحهم ما يشبه ملامحي ولا اشعر ب"ونس" البقاء معهم احسني وحيده في شوارع مكتظه ببشرها الغرباء عني اتذكر صلاح جاهين " الشوارع حواديت " صدقت ياعم صلاح وانا في تلك البلاد الغريبه لاعرف حواديتهم ولا افهم طرائفهم ولا تربطني بهم ايه مشاعر ولا اتمني البقاء طويلا في صوباتهم البارده يقتلني الحنين لوهج وطني وحنانه وحنان امي ودفء قلبها ... افتقد امي واتمني لحظه واحده في حضنها تصالحني علي الدنيا القاسية التي لا تكف عني تمنحني فرحها وتغمرني باحزانها وتلعب بمشاعري وتلهو بنفسيتي وترفعني للسماء السابعة وتقذف بي للارض القحله وتضحكي وتبكيني وتخيفني فابحث عن حضن امي يمنحني اطمئنانا جميلا يقويني ... افتقد وطني الذي يحتلني ويذهب معي حيثما اغدو وتسبق خطوته خطواتي يحتلني فيذكرني بالغربه التي اعيش فيها ويوجعني بالبعد الذي اذهب اليه ويناديني كصوت جنيات الليل المسحوره " عودي " ويؤرق مضجعي ليلا ويوحش ايامي نهاري ويذكرني بكل اللحظات الجميله التي عشتها تحت سماؤه ويفجر الحنين داخلي لامسيات قمره ومواويل ليله يحتلني فلا يمنحني في غربتي مهما قصرت الا الشوق له والحنين له والوجع المؤلم لبعده ..... غادرت البلاد الغريبه وعدت لوطني اهرول احس شوقا للبشر والشوارع ولون السماء وتراب الطريق وللهرم والنيل ولشقتي الحميمه ولاصدقائى وزملائي في العمل ولابي واختي وابنتي وفتحت احضاني لهم جميعا ونمت نوما عميقا بعد طول سهاد ..... ومازلت احن لحضن امي !!!!
الفقره الاخير - في ٢٣ يونيو الفائت مرت الذكري الخامسه لرحيل امي ... وكآن الايام لم تمر وكآن السنوات لم تفوت وكآنني مازلت طفله صغيره تقبض علي يدها في اليوم الاول لدخول المدرسه وهي تهمس في اذني بحنان جارف " ساعتين وجارجعلك " وها انا مازلت انتظر عودتها انا ودموعي وشوقي الجارف لحضنها الدافء ...
الجمله الاخيرة - غبت عن الوطن اسبوع فكآنه الدهر كله وعندما حطت الطائره عجلاتها علي ارض المطار نمت اطمئنانا كآنني كنت مخطوفه في جب العفاريت واطلقوا سراحي بعد طول معاناة ... ايها الوطن الذي تعذبني بحبك لااطيق البعد عنك ولا اتحمل غيابي عني واحبك علي حالك واتمني دائما البقاء في حضنك امنه مطمئنه ... ايها الوطن احبك جدا جدا ..
هناك تعليقان (2):
نشرت هذا المقال في الفيس بوك فجائتني هذه التعليقات ..
Shahnaz Z. Hefni wrote
at 11:17am on January 26th, 2008
جميله المقاله خلتنى اعيط - وجميله جملة احبك على حالك - احبك زى ما انت - هو السؤال اشمعنى الوطن اللى بنحبه زى ماهو بالرغم من اللى فيه ( دونا عن الاخرين ) مجرد سؤال ؟
Ghada Shahbender wrote
at 12:13pm on January 26th, 2008
الغربة تخيفنى و فكرة المنفى كابوس يطاردنى و الحنين للوطن يوجعنى و لكن ... احب شعوب البلاد الاخرى رغم اختلافهم و احب ان افهم حواديتهم و اقص عليهم حواديتن و اشاركهم طرائفنا و امجادنا و اوجاعناا
و اتمنى لو "استوردنا" بعض ما عندهم
و اشعر بالغيرة منهم ... و اتذكر كلمات الشيخ سيد درويش:
حاتجن خلاص ياخواننا يا ريتنى ما روحتش لندن والا باريس
اه ياوطن ...... اشتقت اليك في البلاد التي لا اعرف شوارعها ولا افهم تضاريسها ولا احب لغتها ولا اضحك ل" نكتها " ولا تسعدني اناقه شوارعها ولا تآنق بشرها ... اشتقت اليك ياوطني ... سميتها معزوفة الحنين والوطن يا أميرة .. لأنها معزوفة نصية .. غلفت الوطن بورق سلوفان .. نداء البائع فيه جميل بيخبر عن سلعة مش بيزعج نايمين ومرضى .. و"اسلمي يا مصر انني الفدا" أغنية بنرددها واحنا مصدقين .. حلو خالص
إرسال تعليق