الجمعة، 5 سبتمبر 2008

الغياب الموجع ... !!!!

آحب الاسبوعين الاخيرين من شهر اغسطس وانتظرهما كل عام بفارغ الصبر فهما الاسبوعين الذين احصل فيهما علي اجازتي السنوية مكافأة لنفسي عن جهدها المضني طوال العام فاهرب من العاصمة بكل صخبها وضجيجها وازدحام شوارعها وتلوث هواءها وعشوائية الحياة فيها واقضي ايامهما الخمس عشر لاافعل أي شيء مفيد بالمعني المتعارف عليه فامنح عقلي سكونه ونفسي هدوءها وجسدي راحته واهجر عالمي المألوف فلا اسير في الشوارع التي اعرفها ولا امر امام البنايات التي عهدتها ولا اقابل البشر الذين اعتدت رؤيتهم كل يوم وانسي وظيفتي بكل اعباءها المحببة وافر عمدا من "البرستيج " و" سعادتك ....و...حضرتك " واتخفف من الملابس الرسمية الانيقة والاحذية ذات الكعوب الرفيعة العالية ومشاوير " الكوافير " واعطل عقلي المنهك فامتنع عن قراءة الصحف والمجلات والاستماع لنشرات الاخبار ومتابعه الفضائيات الاخبارية .. اجازة سنوية افر فيها من سنوات عمري الكثيرة واتجاهل خطوط الزمن وتجاعيده تحت عيني وارتد لسنوات العمر الاولي طفلة صغيرة لاتحمل هما ولا تعاني ارقا ولا تفكر في ايام المستقبل بتوجس ، طفلة تعيش فقط لحظتها الجميلة الواحدة تلو الاخري باستمتاع بريء فاهجر العالم كله واصادق نفسي واقبع ساعات طويلة وساعات امام البحر ، أي بحر ، احدق في مياهه الصافية واستمتع برزاز موجاته المتلاحقة واسير حافية فوق رماله " الرطبة " واغيب في صفاء سماءه الزرقاء واقضي ليالي ساهرة اراقب النجوم اللامعة التي حرمنا التلوث من رؤيتها تزين سماء القاهرة ، اسبوعين اقضيهما مرتدية الملابس الصيفية البسيطة عاقفة شعري "المبلول " فوق رأسي اسمع الموسيقي الهادئة واغاني الزمن الجميل واقرأ كتب الادب والروايات التي كدستها طوال العام علي الارض حول فراشي أٌمني نفسي بقراءتها ولااجد لها وقتا ، اقتل الوقت ساعات ودقائق وثوان اشاهد افلام السينما الجميلة و" أأزز لب " ، اجازة سنوية يخدرني في ايامها ولياليها الاسترخاء الشديد فلا ابتلع اقراص المسكنات ولا انام بالمهدئات ولاتطاردني الكوابيس ولاتتسارع دقات قلبي ارهاقا وتوترا ، اجازة سنوية تمنحني في كل لحظاتها راحة جسدية وعصبية ونفسية كاملة تمكني بعد مرور ايامها الجميلة من العودة للعمل وتحمل صعابه وحل مشاكله والابتسام في وجه الغرباء والخصوم والبشر " البايخة " !!!! واذ اقترب نصف اغسطس هذا العام حتي اعددت عدتي للاجازة وحلمت بايامها وادخلت نفسي في " مودها " لكن مقالتي اليكم "دربكت " كل خططي !! فتلك المقالة الاسبوعية تحتاج تفكيرا واعدادا ومتابعة للاحداث وبلورة وجه نظر وهي جميعها اشياء تتناقض تماما وطبيعة اجازتي ونظامها المألوف لذا لم يطاوعني عقلي وتمسك بحقه الطبيعي في الاجازة التي اعتاد عليها وانحاز لغيابي عنكم و" الدنيا مش هتتهد !!" اما ضميري فقد عاتبني ولامني و" مايصحش تغييبي اسبوعين بحالهم انتي فاكرة نفسك مين ؟؟!!!" وهكذا قضيت ليلتي الاولي في الاجازة حائرة افكر في هذا الموقف الجديد الذي لم اعتاده قبل ذلك ولم يكن ابدا في حسباني متناقضا وشعاري المعلن "الاجازة اجازة ولو اتهدت الدنيا" والحقيقة ان حيرتي لم تطول فرغم حبي لكم واحساسي الموجع بغيابي عنكم الا ان "مود" الاجازة انتصر عليا وغلبني وحجبني عنكم طيلة اسبوعين كاملين لم اشتاق فيهما الا لكم !!! وها انا قد عدت من اجازتي السنوية بكامل طاقتي النفسية والجسدية فرحة باسترداد حياتي وعالمي ومقالتي اليكم !!!! ولتسمحوا لي – في هذه المقالة – وبعد هذا الغياب الموجع عنكم المرور وبسرعة علي احداث هذين الاسبوعين الذي ثبت فيها الزمن عندي وبقي متحركا حيا عندكم جميعا !!!! ففي هذين الاسبوعين احترق قطار قليوب بركابه الفقراء فخيمت غيمة الحزن مجددا علي الوطن وارتفع نحيب الرجال من اسر الضحايا واقاربهم وتجمدت الدموع في مآقيهم ورسم غضبهم من الاهمال واللامبالاة علي وجوههم المتعبة اخاديده العميقة الموجعة ولطمت النساء علي وجوهها وشقت ملابسها وتبادل المسئولين عن هيئة السكك الحديدية الاتهامات فمنهم من حمل رئيس الهيئة – الذي اقيل – ومساعديه من الموظفين الكبار المسئولية عن حياة هؤلاء الركاب وموتهم المأسوي ومنهم من القي العبء علي كاهل عامل التحويله والسائقين باعتبارهم المسئولين وقت الحادث عن حياة الركاب التي انتهت بسبب ذلك التصادم ومازالت النيابه تحقق في الواقعة ولم تنتهي تحقيقاتها بعد وبصرف النظر عن التحقيقات الجنائية ونتائجها فقد بكي المصريين ابناءهم شهداء حادث القطار بكاءا مريرا جدد احزانهم القديمة علي ابناءهم شهداء العبارة "السلام 98 " التي غرقت بركابها الالف من فقراء المصريين في طرفة عين وعلي ابناءهم شهداء قطار الصعيد الذي احترق بركابه الفقراء منذ بضعة سنوات وعلي ابنائهم شهداء العبارة "سالم اكسبرس" التي غرقت بركابها المعتمرين منذ سنوات بعيدة وقبل هذا وذاك جدد احزانهم الدفينه علي ابنائهم من مبدعين مصر وفنانيها الذي احترق به قصر ثقافة بني سويف اثناء عرض مسرحي وسأل المصريين انفسهم للمرة المليون هل صار الاهمال قدرنا يقصف اعمار الاحباء وينهي حياتهم؟؟؟!!! سؤال لم يجدوا له اجابه مقنعة او مفهومة فكففوا دموعهم وانصرفوا الي حياتهم القاسية ينتظرون الضربة الموجعة للقدر لايعرفون من اين ستأتيهم ولاكيف لكنهم يعرفون نتيجتها الموجعة مزيدا من شهداء الاهمال واللامبالاة وعدم الاكتراث بحياتهم وحياة احبائهم !!!! وفي ذات الاسبوعين انتقل الملك رمسيس الثاني من ميدانه في وسط القاهرة لمقره الجديد بالهرم في موكب مهيب استمر ساعات طويلة لوحت فيه الجماهير المتابعه للرحله للملك العظيم باعلام مصر احتراما لسيرته وتاريخه وهو الملك المصري الذي طرد الحيثيين من حدود الوطن وحرر ترابه من دنسهم فبقيت ذكراه عظيمة بعد آلاف السينين وكم كان لافتا للنظر الاهتمام الشعبي بتلك الرحلة فقبع الناس في بيوتهم امام شاشات التلفزيون ولاحقوا الموكب في الشوارع لساعات طويلة يسيرون خلف الملك خطوه بخطوة حتي انتهت رحلته الي مقره الجديد ولااعرف بالضبط سر ذلك الاهتمام وهل هي مشاعر وطنية مختزنة داخل صدور المصريين لاتجد لها متنفسا عظيما ام هو وعي ثقافي بالملك وحضارته الفرعونية العظيمة وتراثها الخالد ، والحقيقة انني لم اشغل نفسي بالبحث عن سبب ذلك الاهتمام او تفسير دوافعه لكني احببته واحببت المصريين الشعب الجميل الذي يحب بلده ويحترم كل رموزها مهما ضاقت به الحياة او قست عليه !!! وفي ذات الاسبوعين سافر بضعه طلاب من جامعه المنصورة للولايات المتحده الامريكية لغرض التبادل الثقافي فاذا بمعظمهم بعد وصوله لهناك يفر من الجامعة التي استضافته ويختفي وسط زحام الملايين يبحث عن هجرة او فرصه عمل او ثروة تنتظره لاقتناصها !! ولان امريكا مازال تتوجع من مصيبة 11 سبتمبر ومازالت تبكي قتلاها وجرحاها ولم تلتئم جراحها بعد ومازالت حربها في افغانستان تؤرقها فهي حرب بلا نصر تطارد فيها قوات المارينز الامريكية الاشباح في الجبال والصحاري ولم ترفع بعد رايات النصر المظفر ، ولان امريكا لم تثأر لكرامتها المهانة ولم تمسح من فوق وجهها اللطمة التي نالتها في عقر دارها ومازالت الكوابيس الليلية الموحشة تطارد كل امريكي وتغزو فراشه كل ليله ، ولان امريكا تري كل العرب والمسلمين ارهابيين حتي لو اعلنت الدبلوماسية الامريكية بلباقة السفراء غير ذلك ولان الطلاب المصريين عرب وعلي الارجح جميعهم مسلمين فقد استنفرت اجهزة الامن الامريكية بحثا عنهم وتوصلت – بسهوله ويسر يتناسب وطرق الهروب الساذج للشباب الريفيين - الي معظمهم وقبضت عليهم ولم تصدق بالطبع تفسيراتهم لذلك الفرار بكونه لزيارة الاقارب او بحثا عن اصدقاء وارتابت في نواياهم واعتبرتهم مشروع ارهابي لم يكتمل وقدمتهم للمحاكمة ربما بتهمة الفرار من التبادل الثقافي او بتهمة الرغبة في الانتماء للحلم الامريكي الذي راودهم ويراودهم الف مليون مرة كل يوم باعتباره مخرجا لهم من ازماتهم الاقتصادية التي سيعيشون فيها مستقبلا !!! والحق انني حزنت علي هؤلاء الطلاب ولم يكن منبع حزني فقط ما يتعرضون له من اجراءات تعسفية ومحاكمة قاسية في بلاد الغربة ، ولم يكن منبع حزني فقط عدم استفادتهم من رحله التبادل الثقافي التي اتاحت لهم الظروف الحصول عليها والتي لو عاشوها ونجحوا في اجتيازها ربما تغيرت بهم الاحوال !! بل كان منبع حزني العميق رغبتهم في الفرار من هذا الوطن والاقامة في أي مكان اخر ولو كان ذلك بشكل غير قانوني قد يعرضهم للمتاعب والسجن !! حزنت علي هؤلاء الشباب وتجربتهم القاسية في بلاد العم سام وماما امريكا ، حزنت علي هؤلاء الشباب وحلمهم المجهض الذي تحول لكابوس مروع فكرني بالمثل العربي القديم " كالمستجير من الرمضاء بالنار " واحسست وهج النيران الامريكية التي سعوا اليها بديلا عن واقعهم الصعب ومستقبلهم الاصعب يحرق براءتهم واحلامهم وهم محتجزين في بلاد الغربة ينتظرهم في افضل الاحوال الترحيل المهين وفي اصعبها سجن الكتزار الظالم او معتقل جوانيناموا المخيف !!! وفي نهاية الاسبوعين وفي اليوم الاخير لاجازتي داهمني خبر وفاة نجيب محفوظ ، فانتهت اجازتي قبل ميعادها بساعات وبكيته بدموع القلب حزنا علي خسارتنا الفادحة لذلك الابن النابغ للوطن واديبه المبدع العظيم الذي احب الوطن فاحبه الوطن وبكاه ابناءه بالدمع الحار!! وهكذا انتهت اجازتي وايامها .... ويالهم من اسبوعين !!!!! الفقرة الاخيرة – في التراث العربي قصه عن شاب تاه في الصحراء فقابلته جنية جميلة غازلته واغوته وحين مال لها وضعف امامها تحولت ل" امنا الغولة " بعيون حمراء واسنان مشحوذة غرزتها في رقبته ومصت دمه !!! قصه اهديها لشبابنا المحتجز في امريكا ولشبابنا الذي مازال يراوده علي نفسه الحلم الامريكي !!! الجملة الاخيرة - الاجازة السنوية علاج للهم والارهاق و" البوز " المستمر و"التكشيرة " الدائمة وضربات القلب السريعة والضغط العصبي و" كرشة النفس " جربوها و ادعو لي !!! الجملة الاخيرة – ان رثاء نجيب محفوظ امر شاق فهو قصاص واديب عظيم لايجوز رثاءه ولا الكتابه عنه بعباراتنا الركيكة وكلماتنا العاجزة ... لكن عجزنا عن رثاه بما يليق به لاينال من عظيم تقديرنا له وقدر حزننا عليه !!! السطر الاخير – اوحشتموني جدا واحسست غيابي عنكم دهرا واحتجابي عنكم اسرا ... اوحشتموني جدا جدا !!!

ليست هناك تعليقات: