الثلاثاء، 2 سبتمبر 2008

ذكريات من سرادقات العزاء


( 1 )
سألتني ابنتي بحزن طاغ " هي الدكاترة مفروض تعالج الناس ولا تموتهم ؟؟ " لم اجيبها متعمدة تجاهل سؤالها حرصا علي صحتها النفسية وهي شابه في مقتبل العمر مازالت تري العالم جميل فخفت ان اوقعها في شرك تشاؤمي الدائم المنسوج بقصص مريرة لمرضي ضاعت حياتهم ببساطه نتيجة خطأ لطبيب اما في التشخيص او في العلاج وفضلت ان اترك لابنتي مساحه اكتشاف الهم بنفسها متضرعه الي الله العظيم القدير ان يقيها شر اخطاء الاطباء خصوصا والشر عموما .. وقصتي مع ابنتي بدأت ونحن في المطبخ نعد طعام الافطار في يوم رمضاني عادي ليدخل علينا زوجي – قبل الاذان بدقاتق قليلة - منزعجا يخبرنا بأسي " سالم مات " وشرح لنا " مات بسكته قلبية ، تعب من يومين راح المستشفي عمل رسم قلب الدكتور قاله انت كويس روح ، فروح " تتابع ابنتي حديث ابيها بأسي " تاني يوم تعب قوي ، ملحقش يروح المستشفي مرة تانية ، مات !!" لم تفهم ابنتي ماحدث لسالم بواب العقار المجاور هذا الرجل الذي كان وحتي لحظة موته في كامل صحته وريعان شبابه " مات ليه ؟؟ " اجابها ابيه ساخرا " كدة !!؟ وتركنا وخرج لنبقي في المطبخ وحدنا انا وهي " ازاي الدكتور معرفش انه عيان ، ليه ماحجزوش في المستشفي ؟؟ ليه ماعملولوش تحاليل اكتر او رسم قلب مرة تانية ؟؟ ماتردي عليا ياماما ؟؟"
وقبل ان ارد عليها سمعنا آذان المغرب عاليا فحمدت ربنا علي انقاذي مع الحوار المرير الذي ارادت ابنتي ان تخوضه معي ووضعت همي في الطعام وهي لاتتوقف عن الحديث " هو اكمنه فقير وراحل مستشفي علي قدها ، والا ايه الحكايه ؟؟ " ولاارد عليها فتزيد وعيناها تلمع بدموع الاسي " ازاي الدكتور مخدش باله انه عيان ؟؟؟؟ " ثم اضافت بمرارة وحزن طاغي " " هي الدكاترة مفروض تعالج الناس ولا تموتهم ؟؟ " فلم ارد عليها وها انا اسألكم سؤالها الذي لم اعد اعرف اجابته !!!!
( 2 )
" دي حاله الدكتور .................... محدش غيره يقدر يقرب منها " هكذا شرحت لنا ممرضة شابة تجلس علي مكتب خشبي بملل لاتجد ما تفعله علي باب غرفه العنايه المركزة في احد اكبر المستشفيات الخاصه ردا علي صرخاتنا الغاضبه الاحتجاجيه علي ترك مريضتنا ملقاة علي فراشها تصارع الغيبوبه قرابه الاسبوع دون ان تتحسن حالتها ، وقصتنا بدأت وقت دخلت عمتي المستشفي تسير علي قدميها تعاني من اسهال حاد وهي مريضه كبد متليف بسبب فيروس ( سي ) وقبل ان ندرك تطورات حاله عمتي وكيفيه علاجها كانت قد دخلت في غيبوبه اودعت بسببها غرفه العنايه المركزة في عهده تلك الممرضة الشابة ونائب صغير للطبيب الكبير المتصيت في علاج امراض الكبد ، طبيب صغير يدخل علي عمتي لايفعل شيئا ثم يعود الينا يحاول ان يطمئننا ولاينجح بسبب الفزع علي وجهه والبلادة في عينيه ، ينظر في عيوننا الملتاعه بقلق ولايتكلم معنا كثيرا " خير ان شاء الله " نائب صغير لا يملك شيئا الا الدخول علي المريضة مرتبكا والخروج من حجرتها اكثر ارتباكا " خير ان شاء الله " ..
ولان الطبيب الكبير المتصيت غاب عن عمتي اسبوعا كامل تركها فيه وحيده بغرفه العنايه المركزة واذ صرخنا واحتجينا علي ذلك وطلبنا بالحاح ان يراها طبيب اخر – في نفس المستشفي ونفس التخصص – لمعرفه طبيعه حالتها وماآلت اليه ووصف أي علاجات لها ، شرحت لنا الممرضة الشابة حقيقة الوضع " لو قعدت المريضة سنة ، مدام الدكتور ------ ماجاش ، محدش ممكن يكشف عليها ولا يقول عندها ايه هو النظام كده !!! مش بس عندنا لا في كل المستشفيات " ولم نكن نفهم بالطبع طبيعه النظام الطبي السائد في مستشفياتنا الخاصه ، هذا النظام الذي يفرض ان يسجل المريض وقت دخوله المستشفي – أي مستشفي - باسم طبيب ما ، فلا يكون لغير هذا الطبيب ونوابه المتأمرين بامره الحق في الكشف علي ذلك المريض والتعامل معه ووصف العلاج له ، لم نكن نفهم طبيعه ذلك النظام الذي ابتدعه الاطباء الكبار وسار عليه واتبعه الاطباء الصغار واجبر علي الخضوع له المرضي وذويهم و " انت وحظك " لو كان طبيبك الذي اخترته لمريضك طيب وابن حلال وعنده ضمير " يبقي حظك حلو " ولو كان طبيبك الذي اخترته لمريضك " ولا مؤاخذة " يبقي " العمر الطويل لك " وربنا يجعله اخر الاحزان !!!
ولان الطبيب الكبير المتصيت لم يزر عمتي ولا مرة منذ دخلت المستشفي مكتفيا باصدار تعليماته لنائبه الصغير ولان الطبيب الكبير المتصيت لم يأمر بأن تجري لها تحاليل خاصه تكشف عن نسبه الصوديوم والبوتاسيوم في دمها ولان نائبه الصغير لم يكن يعرف بحكم خبرته المحدوده اهميه تلك التحاليل ارتفع الصوديوم والبوتاسيوم في دمها ودخلت عمتي الغيبوبه ولم تخرج منها و " العمر الطويل لكم ولنا " ..
( 3 )
" العملية نجحت ، الف مبروك "هكذا غادرنا المستشفي سعداء – وداخل نفوسنا بصيص امل - بعد يوم مرهق وساعات طويلة قضيناها امام باب غرفه العمليات – في واحده من اكبر المستشفيات الخاصه - ننتظر نتيجة العملية الكبري التي تجريها شقيقة زوجي سيدة في بداية الخمسينات من عمرها تزرع كلية جديدة بعد ان توقفت كليتيها عن العمل بسبب مرضي فيروسي الم بها وسرق من شبابها اجمل سنواته " خلاص المريضة طلعت اوضتها " وهكذا تنفسنا الصعداء وسالت دموع بعضنا فرحا وركع البعض الاخر لله شكرا وامتنانا وعدنا الي منازلنا نمني انفسنا ولو لليلة واحده بنوم مريح بعد شهور طويله قضيناها مؤرقين لاتعرف عيوننا النوم ونحن – اسرة تلك المريضة - نتناقش في جميع الاختيارات المتاحه امامنا لانقاذ تلك السيدة مما اصابها ، نتناقش في امكانيه زرع كلي لها بعد ان عانت المريضة ونحن معها الامرين من عملية غسيل الكلي مرتين في الاسبوع لمده عام كامل وبعد ان تعرضت المريضة لكل الاستثناءات التي قد تحدث اثناء عملية الغسيل الكلوي " البسيطة جدا " فاذ بها تنزف مرة واذ بها تفقد وعيها مرة واذ بها تتشنج في مرقدها فتفلت خراطيم الدم من ذراعها مرة واذ تستعصي عروق ذراعها تقلصا امام " الكانيولا " فتوضع الاخيرة في عروق رقبتها مرة ، اهوال عانتها مريضتنا في رحله الغسيل الكلوي ، اهوال ابكتها وابكتنا بل وابكت الغرباء عنا وهم يراقبوا البؤس والشقاء الذي يرتسم علي وجهها ووجوهنا في رحله العلاج المريرة القاسية !!! لذا كانت عملية زرع الكلي هي الامل الذي ارتكنا عليه لانهاء معاناتها سيما بعد ان شرح لنا الطبيب الجراح الكبير انه عمل مثل هذه العمليات مئات المرات واوضح لنا ان جميع مرضاه بخير " والحمد لله " وهكذا سلمنا امرنا لله واتكلنا عليه واقنعنا مريضتنا باهمية زرع الكلي و" تخلصي من الهم اللي انت عايشه فيه " وفعلا ادخلنا مريضتنا غرفه العمليات امانه في يد الطبيب الجراح الكبير و نجحت العملية و" الحمد لله " لكن فرحتنا لم تدم ففي نهار اليوم التالي اخبرتنا المستشفي تليفونيا " المدام حالتها وحشة " واذ هرولنا جميعا للمستشفي حتي وجدنها جثه هامده وشرحت لنا الممرضة " العملية فعلا نجحت لكن المدام جالها جلطة فماتت!!!" ولان شقيقة زوجي الاخري طبيبة في احد بلاد "الخواجات" فقد صرخت في المستشفي بحزن ولوعة وارتفع صوتها متسائلا بغضب ومرارة " طب ماهو الجلطات متوقعه بعد أي عملية كبيرة وليها دايما اجراءات وقائية معروفة ، ليه ماتعملتش ؟؟ ليه " سؤال لم يجيبنا – حتي الان- أي شخص عليه فالممرضة اعتبرت ان دورها انتهي باخطارنا بوفاة المريضة والطبيب الجراح اعتبر دوره انتهي وقت نجاح العملية والمستشفي انتهي دورها بوفاة المريضة و" دفع الحساب " وهكذا نجحت العملية وماتت المريضة في ريعان شبابها وتركت خلفها ابنتين صغيرتين تجرعتا ومازالت مرارة اليتم القاسي ورفضت اسرتها اتخاذ ايه اجراءات ضد المستشفي " وهو ده حيرجع اللي راحت ؟؟!! " و " البقية في حياتكم "
( 4 )
" طلع عندها ورم في المخ " هكذا اخبرني محامي شاب يعمل معي وهو يصف حالة والدته ذات الاربعين عاما والتي كانت تشكو باستمرار من الم في ضروسها " الدكتور قالي عملية بسيطة وبعدها يومين في العنايه المركزة وتروح " وتركني متفاءلا يحلم بشفاء امه وعودتها اليه " بالسلامة !!!" فلم يري الدهشة المرسومة علي وجههي ولم تواتيني الجراءة وقتها ان انهيه عن تلك العملية لخطورتها المتصورة ، يومها عدت منزلي حزينه غاضبه ، فضفضت لزوجي " الدكتور نصاب طبعا ، استئصال ورم من المخ ، عملية بسيطة ؟؟!!! يومين في العنايه وتروح ؟؟!!! " ابتسم زوجي ساخرا " وهو صدق كلام الدكتور ازاي ؟؟ ده كلام ما يتصدقش !!" لكن المحامي الشاب صدق الدكتور وعاش في آماله واحلامه واخذ والدته بنفسه للمستشفي الخاص المتخصصه في مثل هذة العمليات ومني نفسه بشفائها التام ، وقضت الام في غرفه العمليات عشرين ساعه تقريبا مخدره يتناوب عليها الاطباء واطقم التمريض يستأصلون من مخها الورم المتشعب الذي احتل المخ وجذعه ثم خرجت الي غرفه العنايه المركزة عشرين يوما غارقه في غيبوبة عميقه تنتفض احيانا بعض الانتفاضات العشوائية فيهز الطبيب الجراح الكبير رأسه " مش بقولك حتتحسن " فيتفائل ابنها ويزداد الامل في نفسه ويستعد لعودة وعيها وروحه التائهه في احضان غيبوبتها وقبل ان يصدق تفاؤله تفارق الام الحياة دون وداع ويبكي الابن الشاب دموعا مريرة ويبقي الطبيب الجراح يبيع وهم الشفاء السريع لمرضاه واهلهم ويجري عملياته الكبري في مخ المرضي يستأصل اورامها وحياتهم و" البركة فيكم " ..
( 5 )
" اللي يعيا في مصر ذنبه علي جنبه " جمله قالها احد اصدقائي بصوت منخفض هامس بنبرات حزينه مريرة حتي لايسمعه المعزين الذين ملئوا بيته يتضامنون معه في مصابه الفادح ويواسوه في فقيده العزيز الذي انتهي عمره فجأ "والاعمار بيد الله " في احد المستشفيات الخاصه علي يد فريق من الاطباء الكبار ومساعديهم واطقم التمريض الذي تهاونوا جميعا في اداء عملهم فمات عزيز صديقي بشكل مباغت يشير الي اهمال وتهاون مؤلمين فتبادلنا التعازي والبكاء وانتهي الامر .. وكان عزيز صديقي قد احس بالم في صدره فذهب – وهو رجل ثري موسر ضخم الجثه مهيب الطلعه – الي اكبر المستشفيات الخاصه في مصر ففحصه نخبه من الاطباء الكبار ثم طلبوا منه العودة الي منزله " شويه غازات يقلقوك كده " فعاد الي منزله وسريعا ما عاوده الالم فهرول فزعا الي المستشفي فاستقبلوه ساخرين من قلقه " مكناش نعرف انك خواف كده " وفحصوه ثانيه ثم كرروا عليه بملل نصيحتهم "ماتفتريش في الاكل وحتبقي تمام ، يالا روح !!" فعاد منزله خجلا من خوفه علي صحته وشرح لزوجته " بايني بقيت خواف فعلا !! " وقبل ان يكمل جملته اصابه الالم كالسكين في قلبه وازرق وجهه وٍسقط علي كتف زوجته مفارقا الحياة محدثا لزوجته وصديقي وكل معارفه صدمه رهيبة لايصدقوا ماجري له وماسيجري لهم " اللي يعيا في مصر ذنبه علي جنبه " قول مرير موجع يحول المرض الذي يصيب البشر لاختيار عابث يتحمل المريض وحده نتيجته الوحيدة الحتمية المؤسفه ، قول مرير ساخر يعبر عن حاله انعدام الثقة التي يعيشها الناس في هذا الوطن قبل الاطباء ملائكة الرحمة ويد الله الحانية في الارض هؤلاء الذين نتذكرهم ونشكرهم بشدة وقت شفاء المرضي ونتذكرهم اكثر ونلعنهم وقت موت الاصحاء " اللي يعيا في مصر ذنبه علي جنبه " جملة مصاغه بالالم والضيق والغضب قالها رجل يائس لم يجد سبيل امامه للتعامل مع الموقف الموجع الذي عاشه الا السخرية المريرة طريقا للهرب من الواقع المتردي الذي احاط به ، قالها وصمت بعدها طويلا وغرق في احزانه وترك لي كلماته البسيطة شعله اللهب تحت جلدي تحرق قلبي وتدمي نفسي كلما تدهورت حاله مريض كان يتصور سرعه شفاءه من مرضه البيسط ، وكلما مات مريض بغير سبب الا الخطأ او الاهمال الطبي .. وها انا اسألكم " هو صحيح اللي يعيا في مصر ذنبه علي جنبه ؟؟؟!!!!! "
الجملة الاخيرة – في مصر اطباء عظماء يبذلوا في عملهم ورعايتهم للمرضي كل الجهد المخلص ويتركوا لهم بعد الشفاء ذكريات عظيمة ويتركوا ببراعتهم وتفانيهم في نفوس من حولهم امتنان وشكر كبير ، لكن هذا في ذاته لاينال من كون ما ذكرته اعلاه قصص حقيقية - لم تنساها ذاكرتي ابدا - كنت اتمني الا تحدث وكنت اتمني ان يحاسب مرتكبيها حسابا عسيرا يردعهم لكن ذلك لم يحدث ، وهو ما يظلم الاطباء العظماء ويضيع مجهودهم ويلوث ثوبهم الابيض ببقع سوداء لاتغيب ابدا عن بصرنا او ذاكرتنا ..
السطر الاخير - ادرك ان الاعمار بيد الله وان الحياة والموت قدر ونصيب ... لكني ادرك ايضا ان الاطباء في مصر شاركوا لاسباب كثيرة في حالات الحزن الدائم التي نعيشها وحالات القلق المستمر الذي يسيطر عليها !!
الكلمة الاخيرة – ادعوا معي للفنانه الجميلة العظيمة سعاد نصر بالشفاء والله علي كل شيء قدير ..
الاربعاء 18 يناير 2006

ليست هناك تعليقات: