في جريدة الفجر كتبت لميس جابر في 1/ 8/ 2012
( عمر سليمان .. عملاق فى عصر الأقزام )
قال الطبيب الأمريكى متسائلاً: أريد أن أعرف من هو مريضي؟ فقال المريض: أنا عمر سليمان.. مواطن مصرى.. كنت جنرالاً ومحارباً فى الجيش المصرى.. حاربت فى اليمن والاستنزاف وأكتوبر ثم ترأست جهاز المخابرات العامة المصرية لمدة عشرين عاماً، خدمت بلادى بكل ما استطعت من قوة وتفان وإخلاص وإيمان ولكنى الآن حزين.. خائف على مصر.. فكل ما انجزته وأنجزه معى كل المصريين الشرفاء هو الآن قيض الرياح.
قال الطبيب: الخوف والحزن هما المرض المستعصى على الشفاء، هذا ما حدث غالباً.. الحزن قضى على حياة «الجنرال» الذى ننادى عليه أن يأتى منذ عام ونصف العام.. جهازه المناعى تعطل.. وتوقف عن العمل وفتح البوابة لكل المهاجمين وجميع مراسيل الأمراض والضعف والوهن والتفوا حوله.. وهزموه.
هذا هو التفسير المنطقى لوفاة اللواء عمر سليمان.. المنطقى من حيث العلم والطب ولكنه ليس منطقياً من حيث أنه رئيس المخابرات العامة المصرية.. الرئيس الأشهر والأكفأ على مستوى العالم، ليس منطقياً من حيث أن الحدث تلازم مع تصفية عناصر أمن قومى ومخابرات فى سوريا وآخر فى تركيا وآخر فى ليبيا واليمن وحتى إسرائيل.. ليس منطقياً من حيث إن هؤلاء جميعاً كانوا بشكل أو بآخر من المشاركين فى حرب أكتوبر.. ليس منطقياً وقد قتل السادات يوم السادس من أكتوبر ومنذ 25 يناير وكل رموز أكتوبر تقصى وتهان ومبارك ينكرون عليه وجود ضربة جوية ويتم شطبها من المقررات الدراسية ويطلقون عليه المخلوع بأوامر قطر والإخوان ويتم تشريده من المستشفى إلى السجن وبالعكس حسب الهوى والمزاج والأوامر.. وما حدث أمام وزارة الدفاع من حرب كاملة الأركان لإسقاط مصر ووزارة دفاعها ومجلسها العسكرى وجيشها بجيش من تنظيم القاعدة وطالبان وإيران والقسام والرعاع والعملاء والخونة وكل هذا على أنغام أنشودة الست كلينتون الصداحة التى تقول وتعيد عن حقوق الانسان والعنف المفرط والسلطة المدنية المنتخبة انتخابات نزيهة، ماذا حدث؟ هل قدم له الامريكان شيئاً؟ دواءً؟ محاليل مثلاً؟ بعد أن ظلت ابنتاه بجواره حتى قبيل منتصف الليل ثم تركتاه يشاهد الفضائية المصرية لتعودا فى الصباح.. جاء التليفون ليبلغهما أن الجنرال قد أصيب بأزمة قلبية قبيل الفجر!!
ماذا حدث؟ هل هزمه الأمريكان أم طعنته مفارقات القدر التى جعلت من أصحاب السجلات الجنائية والسوابق الاجرامية أوصياء وقوامين على أصحاب السجلات الوطنية المشرفة الناصعة المصرية الأصيلة؟
أم نحن الذين أصابتنا لعنة سوء الأيام والطالع أخذت منا فى أشد أوقات الاجتياح هذا الصقر.. حورس المخلص!!
كنت أسأل نفسى كثيراً لماذا التف حوله المصريون بهذه السرعة وهذا الحماس وهذه الكثرة فى وقت قليل جداً.. لماذا قرروا أن هذا الرجل هو الذى نثق فيه ونسلمه طواعية نفوسنا وأرواحنا وبلادنا ومستقبل أبنائنا وأحفادنا ونحن نشعر بالأمان الكامل.. ولماذا لم يلتفتوا للعناوين الثورية من نوعية نائب المخلوع ورمز النظام السابق وعصر الفلول هو لم يتحدث أى حديث تليفزيونى فى الأسبوعين اللذين تولى فيهما منصب نائب الرئيس.. ولم نره قبلها نهائياً إلا بالصدفة.. لم نر له سوى حوار واحد مع قناة غير مصرية ولم يدل سوى بحوار صحفى واحد ولم تستقر فى عقولنا من كلماته سوى أنه لن يسمح بأن ترتدى مصر العمامة.. وهل تكفى هذه المقولة على قوتها لجذب هذه الجماهير؟ أظن أنها عيناه.. عينا عمر سليمان.. فهما الواجهة الوحيدة التى طل منها على المصريين وهو عازف عن الإعلام طوال عمره عيناه هى التى سحبت عقول المصريين خلفه وعلقت قلوبهم به عينان قويتان ذكيتان تشعان بالحزم والصلابة والأبوة والرقة لم تنتقص من نورهما سقطة ولاخطيئة.. ولم تقلل من جرأتهما فعلة مخجلة أو خيانة أو انتماء لغير الوطن.. لم تضعف جفناه ولم ترتعش وجلاً أمام جاه أو مال أو منصب..
هذا هو سر عمر سليمان عينان تنطقان بصدق ولا تريان سوى مصلحة الوطن.
بعد غزوة الانتخابات النزيهة آخر حاجة والتى ذهبت بالفريق شفيق وجاءتنا بالعصر الديمقراطى الأمريكانى السابق التجهيز الذى لابد الآن أن نتجرعه قهراً وغصباً شفطة شفطة من إعلان دستورى لانتخابات مجلس لتأسيسية لحل مجلس ولربط مجلس ولازم حازم ولازم مرسى ولابد المرشد وهاالبت خيرت ومافيش غير مالك وحجازى وسلطان وكتاتنى وهيلارى والسفيرة عزيزة باترسون وليفى وكوهين، وبعدما أخذنا نتابع غزل العمة من المصنع الأمريكانى ونقشها بالذوق القطرى وتزيينها بالريش الفاخر ماركة الخلافة العثمانية الهائمة فى المنطقة مثل أشباح القبور حتى تصل العمة إلى تجار الجملة والقطاعى أصحاب مشروع النهضة بالزبالة والتوك توك والسوبيا وموقعة الصحفية شيماء والموافقة على سد «اثيوبيا» على أساس أنه نوع من الحلويات زى «سد الحنك» وأنه لن يعطش مصر.. وبعد أن بدأت الكهرباء ترفع دعمها وتذهب إلى الاخوة فى غزة وحماس وبعد التلويح بمشروع مشترك على حدود غزة سيناء عشان النهضة ومشروعها الفاخر لتوطين شعب فلسطين فى سيناء معلش أصحابنا وحصيرة الصيف واسعة.. وبعد أن اكتشفنا أن ربع مليون فرصة عمل للشباب ستكون فى قطر للتجنيد فى جيش قطرى جديد عشان حرام ماعندهمش ناس تكفى وشبابهم مش بيحب اللون الكاكى واااايد.. وغيره وغيره من كوارث الزمن الأغبر وبعد أن توجت هذه الكوارث بوفاة الجنرال.. انتظرنا أن نودعه بما يليق به وبتاريخه وقيمته ومكانته وفى أول يوم من أيام رمضان الذى بدأ حزيناً صامتاً على وجوه جميع المصريين إلا «القليل» بدأنا نسمع فرق إنشاد التكفيريين وأصحاب فرق كراتيه الأمر بالمعروف وبواقى عناصر الارهابيين القتلة وفتاواهم التى تتبرأ منها كل الاديان والأعراف والأخلاق والانسانية، وبعد أن نصب هؤلاء المرتزقة أنفسهم متولين للحسبة وأصحاب حق إدخال الجنة والنار وبعد كل هذه المهازل التى تلقى فوق رءوسنا كل يوم وساعة.. تركنا كل هذا جانباً وقلنا الجنازة والوداع اللائق.. وجاءت الأخبار تباعاً بعد الأوامر التى صدرت إلى مقر الرئاسة «لا جنازة عسكرية»!! وجاء الرد «هذا قانون».. اللى بعده «لن يحضر متعهد مقر الرئاسة هذه الجنازة» قلنا نحن الشعب شكراً وفر علينا كثيراً هذا شرف لا يستحقه ولا يحلم به.. اللى بعده «مافيش طائرة عسكرية لإحضار جنرال مصر إلى أرضه» وهنا أرسل رجل الأعمال طائرته فوراً.. ذهبت طائرة ساويرس وذهبت أخرى من الإمارات ولو كان طلب من شعب مصر أن يتبرع لتأجير طائرة خاصة لكان ثمنها قد تجمع فى ساعة واحدة.
وغير ذلك من التفاصيل السخيفة التى لا تصدر سوى من صغار كان الرد عليها بليغاً من شعب مصر الأبى الذى صرخ رافضاً حضور «مندوب مرسي» وهتف «مندوب مرسى بره».. فعلاً كان رداً غاية فى الحكمة والصدق.. لأن المصاب هو مصاب الشعب المصرى وليس مصاب الإخوان المسلمين والفرق شاسع، وجاءت الجنازة مختصرة مبتسرة هزيلة لا تليق رغم اشتراك جهاز المخابرات والشرطة العسكرية حتى أننا لاحظنا أن بعض الجماهير قد صبت غضبها على المشير طنطاوى والفريق عنان وأخذت أنا كعادتى ألوم بشدة على المجلس العسكرى وأنفخ وأصرخ وأدين ثم عرفت السبب ولذلك أعلن أسفى على غضبى واتهامى الجامح والذى عليهم دائما أن يتحملوه منا فنحن نعانى سوياً ولكنهم أكيد الأقوى.. عرفت أن الأوامر صدرت ومعها بعض الشخط والنطر وغلق سكة.. سحب الحرس الجمهورى فوراً وكان قبل الجنازة بدقائق.. لهذا حدث ما حدث من هرج وفوضى.. كل الامتنان والعرفان والحب للرجل المصرى الخالص والوطنى الأصيل المسلم الحق والعالم والفقيه المستنير.. فضيلة مفتى الديار المصرية الدكتور «على جمعة» الذى طلب بنفسه أن يذهب لإقامة صلاة الجنازة على فقيد مصر وابنها الغالى عمر سليمان.. فدموعه التى سالت بالصدق غسلت عنا كل الأحاسيس المؤلمة والمقززة.. وأخيراً نصيحة قلبية: التاريخ يا سكان القصر عرف مصر منذ سبعة آلاف عام.. ويعرفها الآن.. وسيعرفها فى المستقبل إلى يوم الدين.. ويعرف أبطالها وأبرارها المخلصين.. وسيعرفهم فى المستقبل ولكنه أبداً لن يذكر من حاولوا بيعها فى غفلة من الزمن وإن طالت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق