السؤال مطروح ، ويعبر عن مخاوف حقيقية لدى قطاع من الذين خرجوا ضد نظام حكم الرئيس مبارك .. في حقيقتها ليست مخاوف من عودة هذا النظام ، بقدر ماهي مخاوف من سقوط (قيمة) من تساورهم المخاوف.
سأشرح المعنى: باستثناء فئة محدودة من المتعاطفين ، لا تأثير لها في الحياة السياسية ، لا يوجد لدى أحد من أنصار مبارك تصور أنه يمكن أن تعود عجلة الزمان إلى الوراء .. ولا الرئيس الأسبق حسني مبارك نفسه قد يرى أن حكمه قد يعود ، أو يريد ذلك . قناعتي الشخصية أن لديه خبرة ونضجًا يكفيان لعدم التفكير في ذلك .. وأن كل ما يريده الآن هو أن يكتمل رد اعتباره التاريخي ، الذي يبدو أن الأقدار قد قررت أن تمنحه إياه وهو على قيد الحياة.
عندما تخرج الشعوب إلى الشوارع بأعداد كثيفة فإن المشاهد لا تكون كما كانت قبلها أبدا ، ذلك أن طبيعة الأمور أن تكون الشعوب قابعة هادئة ، تقبل بتطبيق العقد الاجتماعي المُقر به ، حتى لو كانت لديها تبرماتها ، فإذا ما خرجت فإن هذا يعني أن لديها اعتراضا حقيقيا على العقد أو بند رئيسي من بنوده.
وفي الفترة من ٢٠١١ إلى ٢٠١٣ خرج شعب مصر مرتين ، كانت الثانية أضعاف تأثير الأولى، وشارك فيها الجميع بالملايين ، وبحيث أصبح هذا دليلا متجددا على المطالبة بعقد جديد.
لقد شاركت القوى التقليدية بإجماع غير مسبوق في ثورة «٣٠ يونيو»، وبنت تحالفا (هشًّا) مع قوى «٢٥ يناير» التي وجدت نفسها منجرفة في اتجاه ذلك التحالف لأنه لا خيار آخر أمامها.. وكانت الرسالة التي تمت بلورتها يوم «٣ يوليو» هي أن المصريين جميعا لا يريدون حكما دينيا ، ولا يريدون حكما غير وطني، ولا يريدون حكما إقصائيا يستبعد أحدًا ، ويريدون استعادة الدولة .
لم يقل أي من هؤلاء إنه يريد عودة حكم مبارك .. ولكنه الغالبية قالت بالتأكيد أنها تريد حكم دولة يوليو المجدد والعصري ، وتلك هي القناعة الجوهرية لتركيبة عقل القوى التقليدية .. وحزب غرفة المعيشة .. والطبقة المتوسطه التي حققت مصلحة حقيقية من وجود دولة يوليو.
في «٢٥ يناير» خرج قطاع من المصريين ، عبر عن غضب شعبي ، كان هذا الغضب في البداية ضد واحدة من مؤسسات النظام لا النظام كله .. كان ضد منهج وسلوك أداء الشرطة ، ولكن عوامل محلية وإقليمية ودولية متنوعة ـ لا مجال لشرحها الآن ـ حولت هذا الغضب إلى اتجاه آخر .. أكسبه غطاءً أشمل ووجد الميدان نفسه يهتف « الشعب يريد إسقاط النظام».
إن الكثيرين يعرفون الآن ماذا جرى ، من الذي دبر الفوضى ، واقتحم السجون، وأقسام الشرطة ، وفجَّر التوتر في سيناء ، وأبقى جذوة الحرب النفسية على الشعب والدولة .. الكثيرون يعرفون أنهم كانوا أداة في يد الإخوان ، الجماعة التي لم تهدأ قبل أن تكشف عن نواياها بسرعة خلال عامين ، تبين خلالهما أنها تريد الاستيلاء على الدولة وتأميم المجتمع وتبديل الهوية وإقصاء الجميع بما في ذلك الشركاء الذين وظفتهم في يناير ـ فبراير ٢٠١١ وما بعد ذلك.
لقد وصفت ما جرى في يناير ٢٠١١ وانتهى في ١١ فبراير التالي بأنه «فعل ثوري» ورفضت أن أطلق عليه وصف «الثورة» .. وها هو الأستاذ محمد حسنين هيكل يقول في حواره الأخير مع الزميلة لميس الحديدي - يوم الخميس الماضي - أنه وصف ما حدث للمشير محمد حسين طنطاوي بأنه «حالة ثورية» .
في حقيقة الأمر لم يكن ذلك «ثورة» لأكثر من سبب.. وأهم الأسباب أن «الثورة» لا يمكن إنكارها ولا إغفالها ولا يثور الجدل حولها.. الثورة لا تسمح أصلا بالجدل.
أولا من حيث الدوافع ، لم يكن الغضب مجتمعيا شاملا ، ينطوي على مشاركة كل فئات مصر ، بإرادة شاملة راغبة في تغيير لا يعود إلى ماقبله بأي صورة من الصور.
ثانيا من حيث الأهداف ، كان المسعى هو إنهاء حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك، بينما الشعار كان هو «عيش ـ حرية ـ عدالة اجتماعية» .. وبين الشعار والمطلب كانت هناك فجوة كبرى عبر عنها أنه لم يكن هناك تفاعل حقيقي سابق في المجتمع يقول إن المصريين سوف يخرجون من أجل المطالبة بالمفردات الثلاث في الشعار.. ولأن هذا لم يكن صادقا فقد انطفأت الجذوة بمجرد أن غادر الرئيس الأسبق مقر حكمه.
ثالثا من حيث الإجراء ، فإن الرئيس الأسبق ترك مقر حكمه بإرادته ، حتى لو كان ذلك نتيجة لضغوط ، فإنه فعل ذلك بنفسه ، ولم يترك القصر مجبرا أمام جحافل الجماهير الثائرة.. وطالما أنه توجد فرصة للتحرك ومساحة للنقاش والتفاوض .. فإن تلك لا تكون ثورة بالمعنى المفهوم .. الثورة لا تتفاوض .. وقد تفاوض كل الينايرين مع حكم مبارك بغض النظر عن نتيجة تلك المفاوضات.
رابعا من حيث النتائج ، فإن مبارك سلم حكمة لمؤسسة في الدولة ، هي القوات المسلحة، التي قال الغاضبون الثائرون «الجيش والشعب إيد واحدة» .. ما ينبه مجددا إلى مدى صدقية شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» .. فالغضب بدأ ضد مؤسسة وارتضى بمؤسسة غيرها .. وفي «٣٠ يونيو» كان أن قبل الشعب بأن تقوده مؤسسات الدولة ، ولهذا فإنني أطلق عليها ـ ضمن أسباب أخرى ـ وصف «ثورة الدولة».
إذن ، تسلمت «دولة يوليو» بصورة ما الحكم الذي تركه الرئيس مبارك ، أحد رموز دولة يوليو ، وبتسليمه الحكم لها ، وقبول الشعب ذلك ، فإن النظام وقواعده ومعادلاته لم تسقط ، كما أنه لم يعد هناك مبرر للشرعية الثورية .. التي لم تجد الطاقة الواجبة لنشوئها .
لا يعنينا هنا أن هناك من قال «كان علينا أن نذهب إلى القصر» و«أن نسقط النظام» و«ألا نغادر الميدان» .. تلك أقوال أفراد لا ظهير مجتمعيًّا لها .. لأنها لو كانت ثورة كاملة لم يكن أحد ليقول ذلك بل كان الشعب يفعل دون انتظار أو تفكير أو تفاوض.
ماذا أنتج مشهد «١١ فبراير» إذن ؟ قدم ثلاثة شركاء .. «شريك الغضب» الذي لم يكن مستعدا بالمنتج الفكري والمضمون الاجتماعي المسوق شعبيا ، وإن كانت لديه شعاراته.. وأعني به قوى «٢٥ يناير» . و«شريك الانتهاز» الذي وظف تحالفه مع «شريك الغضب» لكي يحقق مآربه وصولا إلى الإطاحة بمن تحالف معه .. وأعني بذلك الإخوان . و«شريك الاضطرار» متمثلا في القوات المسلحة التي كانت تتشارك ضمنا أوعلنا مع الرئيس الأسبق في رغبة حماية تماسك الدولة .. ولو اقتضى الأمر تنازلات.
ومن ثم دارت العملية السياسية مدفوعة بطاقة الغضب الثوري غير المكتمل، ينقصها المضمون ، وتفتقد إلى البرنامج ، ويعوزها الإخلاص لمبادئ معلنة .
وخلال العامين التاليين ثبت أنه لا يوجد تعبير عن الإيمان الحقيقي بالشعار «عيش ـ حرية ـ عدالة اجتماعية» .. إذ تم إقصاء فئة عريضة جدا من المجتمع .. واتفق «شريك الغضب» مع «شريك الانتهاز» على ذلك .. ولم يمانع «شريك الاضطرار» .. ولم يتساءل أحد: كيف يمكن أن تتحقق «الحرية» إذا استبعدت فئة ، وكيف تطبق «العدالة» إذا ابعدت قوى اجتماعية ، وكيف ينفرد ب«العيش» البعض على حساب بعض آخر؟؟.
حين قبلت «قوى ٢٥ يناير» - ضد مبادئ حقوق الإنسان التي حركتها بداية – أن تستبعد القوى التقليدية من العملية السياسية ، كان أن أقصتها جماعة الإخوان بدورها .. فأصبح الإقصاء مزدوجا .. يتضرر منه فريقان في المجتمع بغض النظر عن حجمهما ، وبالإضافة إلى ذلك شمل الإقصاء : المرأة والأقباط ، وكل من هو غير إخواني .. وتبين أن الإخوان يريدون إقصاء «الدولة» بمعناها الشامل ، بمؤسساتها ، والمصالح المبنية عليها، والمرتبطة بها ، وكان أحمق ما فعل محمد مرسي في أسبوع حكمة الأخير أن قرر إقصاء منظومة البيروقراطية التليدة .. فأضاف إلى قائمة خصومه والمنضوين تحت دوافع «٣٠ يونيو» فصيلا عريضا أكبر من تصور سذاجته السياسية والاجتماعية.
ماذا قالت الملايين التي خرجت في «٣٠ يونيو» وأكدته يومي «٣ يوليو» و«٢٦ يوليو»؟ قالت :«يسقط حكم المرشد» .. شعار واضح صريح لا لبس فيه ، تم بناؤه سياسيا واجتماعيا وفكريا قبل الثورة الأخيرة ، بحيث أصبح مطلبا شعبيا ، في كل مصر .. وبإرادة المشاركين في المظاهرات المليونية الحقيقية كان أن خرجت كل فئات المجتمع لكي تزيح حكم المرشد .. ممثلا في الأشخاص والمقار وقصر الحكم . ومن اللحظة الأولى، لم يكن مدهشا أن الجماهير الثائرة كانت تحتفل قبل أن تنتهي من تحقيق هدفها .. لأن الهدف الثوري حقيقي وأصيل ومغموس في إرادة لا تقبل الهزر متأكدة شعبيا من أنها سوف تحققه ، ولم تكن لديها أي نية للتفاوض عليه ولم تفعل ذلك.
إذن نعود إلى السؤال الأول والأساسي : هل هذا يعني عودة نظام مبارك ؟ كما تقول بعض قوى يناير ، وكما تردد أصوات الإخوان في محاولة منها لدق الإسفين السياسي في التحالف الذي خرج يوم «٣٠ يونيو». الإجابة معروفة .. مبارك نفسه كان هو الذي طوى صفحة حكمه ، كما أن الشعب طوى صفحة أخرى بعد حكمه .. وبدأ في كتابة صفحة جديدة من عمر الدولة.
وكما قلت بداية فإن هذا السؤال يعبر عن مخاوف أشخاص لا عن توجسات مجتمع.. المسألة بغاية البساطة تتعلق بأن بعض قوى يناير لم تتمكن في لحظة يناير وما بعدها خلال عامين من تأكيد وجودها السياسي والمجتمعي بحيث لا تطرح هذا السؤال، ولا يكون له مبرر ، إذا كانت قد وثقت من أن جذورها ممتدة داخل الأرض المجتمعية.
في واقع الأمر نحن هنا بصدد «صراع نخبة» على المواقع والمساحات، أكثر من كوننا بصدد صراع مجتمعي بين فريقين ، أحدهما يريد عودة نظام حكم والأخر لا يريد ذلك.. ولأن «٣٠ يونيو» مجتمعيا استندت إلى فيض جماهيري من القوى التقليدية فإن قوى يناير تخشى أن تفقد البقية الباقية من متحصلاتها نتيجة لهذا التغيير الاجتماعي الكبير .. ولديها ـ عفوا ـ شعور مزدوج بالهزيمة .. ذلك أنها لم تحقق ما خرجت من أجله في يناير ، وهي في ذات الوقت اضطرت لأن تتحالف مع القوى التقليدية لكي تتخلص من «شريك الانتهاز» وتعرف يقينا أن لكل تحالف ثمنا ولكل تآلف نتيجة.
إن أمامنا الآن مشهدين يعبران عن تلك التناقضات .. ويجسدان مخاوف يناير: مشهد الحكومة ، ومشهد لجنة الخمسين . كلاهما يتضمن في دواخله ما يغذي التوجسات.
الحكومة تتكون من ثلاث تركيبات .. مجموعة تنتمي إلى الحزب المصري الديموقراطي، وأبرز من فيها هم : رئيس الوزراء ونائباه ( الببلاوي وبهاء الدين وحسام عيسى) ومعهم وزير التضامن ، وحلفاء حول ذلك مثل منير عبدالنور وكمال أبوعيطة . مجموعة تنتمي إلى عصر مبارك وبيروقراطية الدولة مثل وزير الاستثمار ووزير المالية ووزير الخارجية ووزيري الشباب والرياضة.. ومجموعة تنتمي إلى «الدولتيين» مثل وزراء الدفاع والداخلية والإنتاج الحربي والتنمية المحلية.*
مشهد لجنة الخمسين يتوزع تقريبا بنفس الطريقة ، بغض النظر عن الطريقة التي يقدم بها كل عضو نفسه ، لكنها عمليا تضم منتمين للقوى التقليدية ومنتمين لقوى يناير ، وممثلي قطاعات من البيروقراطية ، فضلا عن الدولتيين .. وكمثالين أشير إلى الدكتورة مني ذو الفقار، وكانت واحدة من أبرز الفاعلات في أمانة السياسات ، والدكتور جابر جاد نصار رئيس جامعة القاهرة، وهو لم يكن معارضا في عصر مبارك.. بغض النظر عن لغة خطابه الحالية.
لا هذا المشهد و لا ذاك يمكن أن يقود إلى صورة مصر التالية ، ومن المؤكد أن التفاعلات الجارية تتجنب أن تتواصل بصورة ما مع أسماء واضحة من القوى التقليدية رغم أنها تستحق ذلك نتيجة للجهد الأساسي الذي قامت به في الإطاحة بحكم المرشد .. وعلى سبيل المثال فإن التواصلات التي تجريها مؤسسة الرئاسة مع الأحزاب تتجنب أن تلتقي بأي من ممثلي القوى التقليدية .. كما لو أنها غير موجودة .. وكما لو أن الرئاسة لا تستند في شرعيتها إلى دعم تلك القوى.
اليقين هو أن مشهد الانتخابات البرلمانية هو الذي سوف يقود مرحليا إلى صورة مصر التالية ، خصوصا إذا جرت الانتخابات بطريقة نزيهة وشفافة كما يرغب في ذلك غالبية المصريين .. ويدرك الجميع وبما في ذلك قوى يناير أن القوى التقليدية التي أنجحت ثورة يونيو سوف يكون لها تأثير في تلك الانتخابات بصورة محددة ، تؤكدها عمليات تفاوض وتواصلات مستمرة مع كل القيادات المحلية في مختلف انحاء مصر التي يمكن أن تكون مؤثرة في الانتخابات المقبلة.*
والملاحظ أن قوى يناير ، ومن قد يسير على نهجها، إنما تحاول أن تمارس ضغوطا بشكل أو آخر، تؤدي إلى فرض قواعد قانونية لا تقود إلى النتيجة المتوقعة لتلك الانتخابات ، أو على الأقل أن تُرضخ القوى التقليدية بصورة ما لقياد من قوى يناير .. هذا في حقيقة الأمر وهْمٌ كبير ، وينطوي على الرغبة في تفجير صراع مجتمعي جديد لا يؤدي إلى الاستقرار ، ولا يقود إلى تمثيل حقيقي ونزيه ، كما يدفع بالمخاطرة نحو انخفاض معدلات المشاركة التي سوف تضفي شرعية صلدة ـ إن تحققت ـ على خريطة الطريق.
من هنا أنتقل إلى مجموعة من النقاط الأخيرة التي علينا أن ننتبه إليها ، بدلا من أن تشغلنا مخاوف بعض الأشخاص من توهمها احتمالات عودة نظام مبارك:
١- هناك فرق جوهري بين نظام الحكم ورجال الحكم ونخبة العصر. نظام الحكم هو مجموعة القواعد التي اتسق الشعب على قبولها ، وتضم تلك القواعد قبوله بوحدات النظام ومعادلاته وقوانينه .. وتلك يطرأ عليها تغيير جديد من خلال الدستور.. بما يعني أن النظام الناتج عن «٣٠ يونيو» لن يكون هو نظام الحكم الذي كان في نهاية عصر مبارك ، كما لن يكون هو النظام الذي كانت تشكله جماعة الإخوان. للأسف نحن نعاني من خلل ملموس في تداول المصطلحات وعدم فهم مضامينها.. ونخلط بين المعاني فنصل الي أحكام غير دقيقة.
أما رجال الحكم فهم الذين يديرونه ، وهؤلاء قد يتنقلون بين حكم وآخر وفق معيارين.. الأول قدراتهم المهنية والسياسية ، فضلا عن نزاهتهم القانونية والأخلاقية، ومثال ذلك عدد كبير من المحافظين الحاليين ..فضلا عن «التكنوقراط السياسي» زياد بهاء الدين الذي كان من بين العاملين في حكم مبارك . والثاني هو قدراتهم الانتخابية وتلبيتهم لمصالح الناخبين.
في حين أن نخبة العصر ، التي قد تشمل ضمن ما تشمل رجال الحكم، تضم كذلك المثقفين والمفكرين وقادة الرأي .. وهؤلاء يخضعون لتقييم عام لا علاقة له برغبة هذا أو ذاك .. تقييم يتعلق بالأساس بما يطرحونه من أفكار وتجديدات وتطويرات وإدارات لمصالح المجتمع. وكلما كان عنصر النخبة أكثر إخلاصا للعام منه للخاص كان هذا هو شريان مصداقيته الذي لا ينقطع.. وفي مصر وغيرها كانت كثير من عناصر النخبة قادرة على أن تستوعب المتغيرات وتقدم للمجتمع ما يحقق فائدته وما يجعل الاحتياج إليها قائما دون التقيد بمرحلة زمنية معينة. في وقت لاحق يمكن ان نمعن بالتحليل في واقع النخبة المصرية ومشكلاتها وصراعاتها وتأثير ذلك علي المناخ المصري العام وحركة تفاعلات المجتمع.
هنا لا بد أن نشير إلى أن النخبة التي قدمتها «٢٥ يناير» تواجه مشكلات عديدة، أبرزها أنها لم تقدم مشروعا متكاملا مقنعا ، كما أنها لم تبرر بعد للرأي العام لماذا دفعت بمصر إلى واقع الإخوان المرير الذي ساندته ودعمته ، وكذلك هي تبدو في تنافساتها شخصية أكثر منها تراعي الصالح العام ، وفوق ذلك يواجه فصيل
منها طعنا في مصداقيته من حيث إنه ربط ذاته بأفكار غربية وأمريكية.. يتبرأ منها حينا ويعود ليؤكدها حينا آخر.
٢- أنتجت ٣٠ يونيو ، وقاد إليها ، تيارا وطنيا جارفا، مناقضا لما أرادته جماعة الإخوان.. فتأجج الشعور المصري والتأكيد على الهوية المصرية .. وهو تيار أزعم أنه يتنامى منذ عام ٢٠٠٤ ، وقد لمسته بنفسي حين كنت أدير جدلا صحفيا من خلال باب ثابت استمر نحو عامين في مجله روزاليوسف عنوانه (مصر فوق الجميع) .. ولا شك أنه تبلور بوضوح مؤخرا وسيكون مؤثرا في تشكيل صورة مصر التالية .. ومعيارا للقياس لدى الرأي العام.
٣- أنتجت ٣٠ يونيو كذلك نموا مطَّردا في تيار الاقتناع بأهمية وضرورة الدولة، ككيان مسيطر ، يدير المجتمع من خلال مؤسساته العريقة. وأركز في هذا السياق على أدوار المؤسسات الأهم والأقدم : الرئاسة - الجيش - الشرطة - القضاء – المؤسسة الدينية بجناحيها - الري - الزراعة .. تلك هي أبرز أعمدة الدولة الفرعونية الراسخة في ذهنية المصري . على أساس هذه القناعة سوف يقرر الرأي العام أحكامه.. ويحدد مصير من يطرحون أنفسهم عليه .. لا لكونهم ينتمون إلى عصر مبارك أو لا ينتمون .. وإنما بمقدار انتمائهم للدولة المصرية وإبداء حرصهم على معايير الأمن القومي.
إن أهم معيار في ذلك هو أن تلك الدولة التي يريدها المصريون لا بد أن تكون مدنية ، ولا بد أن تكون مظلة عامة للجميع ، لا تقصي أحدا ، ولا تستبعد فئة .. بينما سيتولى الناخب والرأي العام كله استبعاد من يرى أنه يناقض ذلك.
ولا يخفى على أحد ، في ضوء تركيبة ٣٠ يونيو التي استندت في تحركها الشعبي إلى قيادة الجيش ودعم الشرطة ومساندة القضاء ، أن هذه الجموع التي خرجت لتطيح بحكم الإخوان كانت تريد «دولة يوليو» المطورة .. المستندة إلى ركيزة المؤسسة العسكرية.. حتى وهي تطالب بالديموقراطية.
٤- رسالة «٣٠يونيو» الأهم هي أنه لا إقصاء لأحد .. وأن الخصم الذي اتفق المجتمع على مواجهته هو المشروع الإرهابي وروافده الفكرية سواء كانت جماعة الإخوان أو من ينحو نحوها في الداخل والخارج.
٥- انتبهت جموع الشعب إلى أهمية التحديث والتطوير والإصلاح ، بمفاهيمها المركبة .. لا المقصورة على مجال دون غيره .. والرسالة التي اتفقت عليها «٢٥ يناير» قبل أن يسرقها الإخوان ، و«٣٠ يونيو» التي أطاحت بالإخوان .. هي أنه لا بد من تحديث دولة تليق بشعب مصر الطموح .. وترضي متطلباته.*
ختاما ، إن أي حديث عن أنظمة الحكم ، أو المصالحات ، لا بد أن يراعي المعايير ـ الملاحظات الخمس السابقة.. وهي ملاحظات تجاوزت مخاوف ساذجة من أن يعود حكم مبارك.