الاثنين، 6 سبتمبر 2010

خمسة عشر دقيقة


اقترحت ابنتي " ملك " تصور شوارع وسط البلد وقت الافطار، ابنتي هاوية تصوير ولها عين فنانة تري الحياة من خلف عدستها بطريقة مختلفة وتفكر بحكم طبيعتها وموهبتها بطريقة غير تقليدية طيلة الوقت في اي شيء وكل شيء، اقترحت تلك الفكرة ولم تضعها موضع التنفيذ، فسرقتها منها بمنتهي التعسف ونفذتها فعلا باعتبار أنها تملك وأنا أملك وغيرنا كثيرون نصور أي شيء في نفس الوقت وتأتي صور كل منا مختلفة تماما عن الاخري، لأن الصورة تحمل روح صاحبها ورؤيته و" ماتزعليش يانونوة " لكن حجتي لم ترضها و"معنتش حاقولك حاجة تاني ياماما".

ولأن التصوير صار أهم هواياتي في الشهور الأخيرة، فالدنيا من خلف عدسة الكاميرا مختلفة جدا، تري مالاتراه بعينك المجردة، العدسة تكشف لك ماتراه عادة ولا تراه، العدسة تكشف لك تفاصيل صغيرة تمر عليها عادة بعدم اكتراث، وحين عرفت أن ملك مدعوة عند اختها علي الافطار ووجدتني سأفطر وحدي قررت انفذ الفكرة المسروقة من ملك، نعم قررت انزل وسط البلد افطر هناك لاصور قبل الافطار وبعده ، كنت اتصور ماسأجده لكن الواقع الذي فاجأني كان اجمل الف مليون مرة من تصوراتي النظرية !!! ...

حملت كاميرتي ونزلت الشارع قبل الافطار بنصف الساعة ... السيارة تنهب الطريق شبه الخالي، فكلما اقتربنا من وقت الأذان كلما تناقص عدد السيارات والبشر السائرون في الشارع، وحين انطلق صوت المؤذن ينادي " الله أكبر" كنت أقف في ميدان طلعت حرب، أشهر كاميرتي في وجه القاهرة أبحث عن الزاوية التي سالتفط منها الصور ... كانت المدينة التي أحبها تخرج من تحت الزحام والصخب تكشف عن وجهها الجميل، مجرد خمس عشرة دقيقة، اظهرت شوارع وسط البلد جمالها ونظافتها !! نعم نظافتها، اقصد تلك الكلمة تماما، وهي نظافة أدهشتني لكن الكاميرا بمنتهي الحب للمدينة اظهرت تلك النظافة بمنتهي الوضوح في كل الصور التي التقطتها، وبسرعة بسرعة تنقلت بين الزوايا المختلفة وعبرت شارع قصر النيل وسليمان باشا ومحمد محمود، اعود واذهب وأذهب وأعود، اصوب عدستي تجاه نهايات الشوارع وبدايتها، كل الشوارع خالية أو شبه خالية، لااحد يمشي في الشارع، موائد رحمن في الشوارع الجانبية يجلس عليها الصائمون يأكلون بمنتهي النظام والأدب، لاصخب لا ضجيج لا كلاكسات سيارات، اشارات المرور الأتوماتيكية تفتح وتغلق، سيارة تمرق من هنا أو هناك، لاتري علي وجه سائقها توتر القيادة المصرية وملامح الاستعجال والسرعة وعصبية وغضب الزحام، كانه خرج متعمدا القيادة في ذلك الوقت تحديدا للاستمتاع بالشوارع الخالية المحروم من رؤيتها معظم اوقات السنة !!!

خمس عشرة دقيقة، اظهرت فيها القاهرة جمالها الدفين العتيق العريق، تري ميدان طلعت حرب جميلاً ومبانيه الاثرية رائعة والشوارع حوله واسعة وعلي رأي عمنا صلاح جاهين علي مدد الشوف حولك كل شيء جميل، المصابيح الصفراء تعكس وهجها علي الاسفلت النظيف اللامع والمصابيح البيضاء تلقي سطوعها علي الأرصفة الكبيرة الواسعة التي نشكو عادة أننا لانراها ولا نجد مكانًا عليها للسير في الأوقات العادية !!! فاذا بوسط البلد يتحول لمكان جميل يضاهي بل يفوق أجمل المدن في العالم جمالا ورونقا ويزيد عنها حميمية ودفئًا وعراقة ....

وتذكرت فيلم " طباخ السيد الرئيس " وقتما سال خالد زكي، الشعب فين، نعم حين خلت الشوارع من الشعب اظهرت جمالها وكشفت وجهها المليح وروحها الدافئة الحميمة لتكاد تأخذها بالأحضان و" بالأحضان يابلادنا ياحلوة بالأحضان " .. وقت الافطار في رمضان ترك الشعب الشوارع وقبع في منازله علي موائد الإفطار يشرب الخروب والكركديه ويكسر صيامه فظهر جمال المدينة التي يقهرها الزحام وزيادة عدد السكان والصخب والضجيج وكلاكسات السيارات، ظهر جمال وسط البلد، ذلك المكان الخاص جدا بشوارعه الواسعة بمقاهيه ومطاعمه بمحلاته ببائعي الصحف ومحلات الملابس و اضوائه الملونة .... واكتشفت من خلف عدستي وحين حدقت في الصور التي التقطها بسرعة مائة مائتين ثلاثمائة صور في خمس عشرة دقيقة، اكتشفت أن المدينة ووسط البلد اجمل مما اظن واري في العادة، وإن مشكلة تلك المدينة المقهورة بسكانها، انها صممت منذ زمن بعيد لعدد من السكان والمترددين عليها فإذ بها تخنق باضعاف اضعاف العدد الذي انشئت لاستيعابه، العدد الرهيب من السكان والمترددين علي القاهرة خنقوها واظهروا علي وجهها قبحا لا تستحقه منهم فعدد السيارات في الشوارع اظهرها ضيقة ثعبانية وعدد المارة علي الارصفة اخفاها واوهمنا بعدم وجودها والزحام المروع من السيارات والمارة والمترددين علي المحلات وصخب الكلاكسات و" وش " احاديث الناس التي تشتري وتبيع وتاكل وتعبر الشوارع خلق شبورة صخب وضجيج وصداع فوق رأس القاهرة المظلومة بالازدحام والصخب ...

خمس عشرة دقيقة اسعدتني بجمالها ... وبعدها خرج النمل من الجحور وازدحمت الشوارع التي ضاقت بالمارة الكثيرين والسيارات الاكثر و طبقت شبورة " الوش " فوق راس المدينة وراسي ففررت بغنيمتي وعدت منزلي اختبئ من الصداع الذي طاردني بقوة من ميدان طلعت حرب حتي ستة اكتوبر !!

خمس عشرة دقيقة اثارت في نفسي شجوناً وتساؤلات كثيرة، شجوناً لان المدينة التي نحبها ونفخر بها والتي ترك التاريخ علي وجهها بصمته وقصصه وحواديته تعاني ضيق تنفس وارهاق بسبب الزحام والتكدس السكاني المروع لكنها لاتعانيه وحدها بل تصدره لنا بمنتهي القسوة والتعسف، انتم خنقتوني وانا اخنقكم والبادي اظلم !!! شجون لان الشوارع الخالية خلال خمس عشرة دقيقة فقط اظهرت جمال ونظافة وحميمية ودفئًا فكأن الزمن عاد للاربيعينات وافلامها الرومانسية الابيض واسود وبسرعة عادت المدينة مقهورة ونحن معها لعصر افلام الاكشن والرعب وابو رجل مسلوخة فانتقلنا بسرعة من اجواء " بين الاطلال وسيدة القصر ونهر الحب " لاجواء "غزو المريخ والمتحول والنينجا ترتل والبوبع "...

قبلما انزل لاصور وسط البلد وقت الافطار، كنت اسمع كثيرا عن مصطلح (اخلاق الزحام) و (سلوكيات الزحام) يردده علماء الاجتماع تفسيرا لسلوكيات وظواهر سلبية نشكو منها كلنا ، كنت اسمع مايقولونه بنصف اذن لاادرك بحق ما الذي يتكلمون عنه ، لكني رأيت بعيني ومحدش قالي في ذلك اليوم المعني الواقعي لما قالوه، كان وسط البلد في منتهي الجمال لمدة خمس عشرة دقيقة بعدها تحول لكارثة مزدحمة صاخبة وبدأت اشعر بالعصبية والتوتر والصداع والرغبة الرهيبة في الخناق والقتال و............ استوعبت ماقالوه بشكل عملي!!! هل صحيح ان القاهرة يعيش فيها عشرون مليون مواطن إقامة دائمة مستقرة ؟؟ هل صحيح ان ستة ملايين مواطن من الاقاليم يدخلوها يوميا للعمل ويخرجون منها آخر اليوم ؟؟ هل صحيح أننا كنا في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي أربعين مليونا وصرنا اليوم ثمانين مليونا ونسير نحو التسعين مليونا بخطي واثقة قوية ؟؟؟ هل يعرف أحد كم سنكون بعد عشرين سنة ؟؟؟ هل يعرف أحد ماهو شكل مدننا وحياتنا وحياة أولادنا واحفادنا وقتها ؟؟ وهل المشكلة زيادة عدد السكان والزحام أم المشكلة في الفوضي وانعدام النظام؟؟

احلم ...................... بالقاهرة جميلة كما رأيتها .. هل يملك أحدكم حلاً لتصبح طيلة الوقت مثلما رأيتها في تلك الدقائق القليلة!!!!


منشوره بجريده روز اليوسف اليوميه بتاريخ 6 سبتمبر 2010
http://www.rosaonline.net/Daily/News.asp?id=81105

الصوره المنشوره من تصويري ....

هناك تعليق واحد:

منال أبوزيد يقول...

أميرة

خمسة عشر دقيقة تنفس فيها "وسط المدينة" بعد هروب المارة والسائرون الى موائد الرحمن وموائد البيت العامرة

خمسة عشر دقيقة عشتيها وعشت مثلها لحسن حظي لظروف أخرى من سنوات
في هذه اللحظات احسست اني عدت الى القاهرة 30 او ربما قبل هذا ايضا....

المعمار... المكان... رائحة الجو
كل ما في وسط البلد
خاص ومميز