المصريون شعب جميل محب للحياة يبحث طيلة الوقت عن السعادة ولاينتمي لحضارة الموت وثقافتها كما يروج بعض المثقفين، المصريون شعب يبحث عن السعادة بكل الأشكال حتي لو كانت بسيطة بل ويسعدهم أي شيء وكل شيء وعلي مر العقود والسنوات لم ينجح الهم أو كثرة المشاكل أو صعوبة الحياة أبدا في تحطيم أو تحجيم وهج السعادة من حياة المصريين وإصرارهم عليها، بل يمكنني باطمئنان ضمير القول بأن تمسك المصريين بحصولهم علي حقهم أو نصيبهم من السعادة و"الانبساط" إنما هو وسيلتهم للمقاومة والبقاء والصمود في أوجه صعوبات وأخطار وشرور كثيرة.
فكلما صعبت الدنيا ابتكر المصريون العباقرة سبلا تتيح لهم الفرح كأن الفرح والبهجة هما الترياق الذي يحصن المصريين ضد سموم الحياة اليومية ومشاكلها وصعوباتها، ويمكنني أيضا القول أن عبارة "اللهم اجعله خير" تلك العبارة التي ينهي بها كثير من المصريين لحظات سعادتهم وفرحهم وضحكهم لا تعني أبدا أنهم متشائمون - كما يحلو للبعض القول - أو أنهم يخافون من لحظات السعادة أن تنقلب عليهم بحزن يتحاشونه بالدعاء، علي العكس أنا أري أن المصريين يعربون عن تمسكهم بالسعادة والفرحة ويدعون القدير في نهاية لحظات سعادتهم بأن تبقي تلك السعادة خيرا عليهم! هكذا ببساطه أري الأمر!
المصريون شعب جميل.. قلبه "أخضر" نابض بالسعادة ويحب الحياة والفرحة والبهجة بكافة أشكالها ويعيشها قدر مايمكنه ودعك من الملامح المتجهمة التي نراها علي وجوه المصريين وهم ذاهبون للعمل يعانون تكدس المواصلات وزحمتها أو وهم يشكون من ارتفاع الأسعار وشدة الغلاء، ودعك أيضا مما نقرأه في الصحف والمجلات وما نسمعه في برامج "التوك شو"، والبرامج الإخبارية من أخبار الغضب الشعبي والاحتجاجات الشعبية علي قرارات اقتصادية وسياسات اجتماعية فالمصريون نجحوا في ترويض التناقض بين انتفاضاتهم أو غضبهم في بعض الأوقات وبين رغبتهم في التمسك بالسعادة والفرحة في معظم الأوقات، بل إن الانتفاضات الاقتصادية والحركات السياسية المطلبية التي يعلن عنها المصريون لا تكشف إلا عن حبهم للحياة ورغبتهم في العيش بشكل أفضل يتيح لهم السعادة التي يتمسكون بها اكسيرا لحياتهم، وإبداع الشخصية المصرية لا ينضب أبدا في ابتكار أشكال البهجة التي تسعد حياتهم فقراء ومتوسطي الحال وأغنياء، فالسعادة ليست حكرا علي طبقة اجتماعية دون أخري، ولم تقف الإمكانيات المالية - الكثيرة أو القليلة - عائقا أبدا في وجه المصريين للحصول علي نصيبهم العادل من السعادة والفرحة.
وإذا كان المصريون خرجوا عن بكرة أبيهم يرقصون في الشوارع والميادين يحملون أعلام الوطن ويهتفون باسمه يوم انتصار فريقنا القومي بكأس أفريقيا ٢٠٠٦ - ٢٠٠٨ فإنهم أيضا خرجوا يوم وصلت مصر لتصفيات كأس العالم في إيطاليا عام ١٩٩٠ يهتفون في الشوارع متشابكي الأيدي "روما.. روما" واعتبر المصريون أن انتصاراتهم الكروية وانتصارات فريقهم القومي مصدر لسعادتهم وفرحتهم، ففي كل مناسبة من تلك المناسبات خرج المصريون شبابا وشيوخا فتيات وشبابا أغنياء وأبناء العشوائيات خرجوا يرقصون معا ببهجة وفرحة يغنون ويصفقون بسعادة ولم نقرأ وقتها عن حالة تحرش جنسي واحدة ولم نقرأ عن سرقة سيارة أو حالة نشل وسط ذلك الزحام لأن المصريين عاشوا لحظات السعادة والفرحة حتي الثمالة واحتفلوا بوطنهم وعلمه وفريقه القومي وانتصاراته بمنتهي الحماس والجدية والبهجة فتحول الجوهري عام ١٩٩٠ لرجل أسعد المصريين ومعه فريق من الرجال الذين شدا المصريون بأسمائهم وهتفوا بها عالية وفي عام ٢٠٠٦ - ٢٠٠٨ صرخت الملايين تحيي حسن شحاتة وفريقه وأبوتريكة وعمرو زكي وزيدان والحضري الذين أسعدوا المصريين وأدخلوا البهجة في قلوبهم!
المصريون شعب جميل فرض طريقته في السعادة علي الدنيا التي يعيشها وأحب من أسعده أحب عبدالحليم حافظ الذي أسعدهم حين آمن بالثورة وغني لها كلمات صلاح جاهين أغاني سياسية ذات مضامين صعبة و"علي باب بستان الاشتراكية" وهو الذي أحب في وقت آخر آحمد عدوية الذي أسعدهم حين ردد كلماتهم الفولكورية وغناها معهم و"سلامتها أم حسن" هو الذي يحب شعبان عبد الرحيم المطرب الشعبي الذي يغني في الأفراح "باحب عمرو موسي وباكره إسرائيل" ويتمايل ويتراقص علي نغماته وكلماته العروس والعروسة وأصدقاؤهم الشباب، أسعد عبدالحليم حافظ وأحمد عدوية وشعبان عبدالرحيم المصريين بأغنياتهم السياسية الوطنية الشعبية الفولكورية المعقدة البسيطة، جميعهم أسعدوا المصريين فأحبوهم !
والمصريون يعبرون عن سعادتهم بكل الطرق الاحتفالية ويحتفلون في كل المناسبات التي يعيشونها فينتظرون الحجاج بالأعلام البيضاء- وكانوا ومازال بعضهم- يرسمون علي واجهات منازلهم احتفاء بالحجاج باخرة وطائرة و"حج مبرور وذنب مغفور"، ويحتفلون بأفراحهم بطريقة جميلة مابين زفة شعبية في الشارع علي دقات الدفوف ونغمات "الدي جي" أو زفة فخمة في أفخر الفنادق أو قاعات الأفراح و"بسم الله الرحمن الرحيم وهنبتدي الليلة"، ويحتفلون بأولياء الله الصالحين وأهل البيت بالموالد المزدحمة و"الليلة الكبيرة ياعمي والعالم كتيرة ماليين الشوادر يابا والريف والبنادر"، حتي زيارة القبور حولها المصريون لمناسبة احتفالية يوزعون فيها "الرحمة" ويضعون فوق الشواهد باقات الورود حبا في الغائبين عنهم، يحتفلون بأعيادهم الدينية والإجازات الرسمية بالذهاب للحدائق العامة والمنتزهات و"أكل وشرب واستغماية"، ويرقصون علي نغمات الطبلة المصرية "تويست الجناين"، وفي عيد الحب "الفالنتين" هذا الاحتفال المستحدث في مصر يرتدي الشباب والشابات الملابس الحمراء ويتبادلون الورود و"الدباديب" الحمراء وتمتلئ الشوارع بأجواء احتفالية مبهجة!! إنه شعب يبحث عن السعادة ولو "من خرم إبرة"!!
إنه شعب جميل فرض شخصيته ومذاقه وطريقته في حب الحياة والسعادة علي كل أيامه وكل تصرفاته، فإذا كان خبراء وزارة العدل قد اعتصموا علي سلم الوزارة خمسين يوما فإنهم في ليلة رمضان "علقوا" فانوساً كبيراً فوق رؤوسهم ليس فقط كما قال البعض لتذكرة الوزير والحكومة بأنهم نائمون علي السلم، وشهر رمضان دخل عليهم، بل لأنهم مثل كل المصريين اعتادوا استقبال ذلك الشهر باحتفاء خاص متمثل في إضاءة فانوس رمضان، فإذا بالخبراء وسط غضبهم واحتجاجاتهم لم ينسوا أن يعيشوا احتفالهم الخاص مثل كل المصريين بذلك الشهر الكريم الذي ينتظره المصريون، ليس فقط باعتباره شهر تقوي ورحمة وإيمان وعتق من النار، بل ينتظرونه باعتباره شهر بهجة ويستعدون له بتزيين شوارعهم وحاراتهم بالزينات الورقية المبهجة والفوانيس التي يتشارك الجيران في تكافل جميل في قيمة تكلفتها فإذا بشوارع الوطن تتألق بالزينات كأننا نعيش عرسا جماعيا وفرحة شاملة في كل البيوت، وكل الشوارع، وكل الحارات، وتلك الزينات في ذاتها تشيع البهجة في أعين الناظرين والتمسك بوجودها وصناعتها وتعليقها في معظم الحارات والشوارع وأيضا الإبداع في ابتكار أشكالها وألوانها بما يكشف عن إصرار مصري صميم علي الإحساس بالسعادة والبهجة كأننا "نتلكك" لوجود مناسبات سعيدة وأيام فرحة!! وإذا كان نيل مصر ومازال يسعد شعبها منذ أيام الاحتفال بأعياد وفاء النيل وحتي الآن، ومازال الجلوس علي النيل و"شم الهوا" طقساً مصرياً جميلاً وكم من قلوب متحابة جمع بينها شاطئ النيل وضفافه والكثير من العائلات المصرية تعتبر "فسحتها" الرئيسية هي النيل، مابين جلوس علي ضفتيه أو "فلوكة" علي سطحه أو "القعدة في كازينو" أو حتي "المشي" علي الكورنيش ساعة المغربية، وإذا كان أغنياء الوطن يستمتعون بالنيل الجميل من خلال الفنادق الكبري والمحال والمطاعم السياحية التي تستأثر ببعض مناطق لايدخلها إلا المميزون اجتماعيا والقادرون علي "الأسعار المولعة"، فإن الطبقة المتوسطة المصرية تستأثر بأجزاء من ضفاف النيل من خلال نواديها الخاصة التي أنشأتها النقابات المهنية والأندية الرياضية والاجتماعية، فإن الفقراء لم يعدموا حيلة للاستمتاع بالنيل والإحساس ببهجته وفرحة النظر إليه، فإذ بهم يخترعون بمبادرات شخصية منهم منتزهات الكباري، حيث يصعدون فوق الكباري الرابضة فوق النيل ويجلسون علي أرصفتها ويوما بعد يوم رصت المقاعد البلاستيكية والمناضد الصغيرة وانتشر باعة الترمس و"الحاجة الساقعة" وحاجة ببلاش كده!!! وقعدنا واتفسحنا وانبسطنا.. وحين ارتدت الكثير من الفتيات المصريات الحجاب إيمانا وتدينا فإن هذا لم يمنعهن من عيش سعادة الحب والتعبير عن مشاعرهن العاطفية علي كورنيش النيل، ولم يمنعهن من تقديم الواجب والتحية والرقص في أفراح الصديقات وبنات العائلة وجارات الشارع والحارة، وهن ذات البنات اللاتي يصلين التراويح وصلاة العيد في الجامع القريب من بيوتهن.. وهن البنات اللاتي كتبن القصص وألفن الشعر وكتبن المدونات علي الإنترنت، وناقشن فيها أجرأ وأسخن القضايا، هذه هي الطريقة المصرية في ممارسة السعادة فيفعل المصريون كل مايسعدهم حتي لو بدا ظاهريا متناقضا ومستعصياً علي التوافق أو الملاءمة.
وإذا كان المصريون مازالوا عازفين عن المشاركة الفعالة في الحياة الحزبية والسياسية في مصر فإن هذا ليس خطأهم بل لأن كل البرامج الحزبية وخططهم المستقبلية تخلو من أي إشارة في برامجها "للسعادة والبهجة" التي يتوق المصريون في نهاية اليوم، وبعد الجهد والإرهاق والتعب والسعي المضني وراء الرزق لتحقيقها والاستمتاع بها.
المصريون شعب جميل.. منح قلبه وحبه وكل مشاعره لكل من منحه السعادة، وأضفي علي حياتهم لمسات البهجة والفرح، فأحبوا كرة القدم وأحبوا الأراجوز وصندوق الدنيا والبيانولا والساحر ومسرح العرائس، وأحبوا السينما والمسرح ومسلسلات التليفزيون، وأحبوا الغناء والربابة والسمسمية والناي والمزمار البلدي، وأحبوا رقص الخيل وفرقة رضا وفرق المداحين والغناء الشعبي وعلي الحجار ومحمد منير، وأحبوا إسماعيل ياسين وماري منيب وعادل إمام وزينات صدقي وأحبوا صالح سليم والخطيب وأبو تريكة وحمادة إمام وحسن شحاتة وعمرو زكي وأحبوا سعاد حسني.. أحبوهم لأنهم منحوهم السعادة والبهجة وهذا مايتوق إليه المصريون.
المصريون شعب جميل يبحث عن السعادة ويعيشها ويقتنص أوقاتها كلما أمكن له ذلك.. والآن وفي أيام العيد الثلاثة التي حلت تأملوا حالته وملامحه وألوان ملابسه واسمعوا صخب وضجيج الفرحة و"انفجارات البمب"، وانظروا للبالونات المحلقة في السماء والمراجيح الخشبية الملونة في الأحياء الشعبية والسينمات في وسط البلد، والازدحام أمام محلات الكحك والفسيخ والرنجة والجموع المحتشدة علي بوابات وداخل الحدائق والمنتزهات العامة، وعلي كورنيش النيل وفي الهرم والقلعة وعلي شواطئ البحر في إسكندرية والساحل الشمالي والإسماعيلية وبورسعيد ومرسي مطروح.. ألم أقل لكم إن المصريين شعب جميل!!
أدام الله عليهم السعادة والأعياد.
نشرت في 19 سبتمبر 2009