ليله ماقبل المباراة ....
ربط السائق العجوز علم الوطن في شبكة سيارته القديمة المتهالكة أعلي السقف وسار في الشوارع المزدحمة بسياراتها وبالمارة لم يشعر ضيقا من الاختناقات المرورية، يقضي وقت الإشارة الطويلة يسمع الاغاني الوطنية في الراديو وفي التلويح للشباب يحييهم يؤازرهم يغني معهم بصوته الأجش ياحبيبتي يامصر يبتسم في وجه فتاة جميلة ترتدي قميصا أحمر وبنطلونًا أسود وتربط شعرها بشرائط ستان بألوان العلم الثلاث، يلوح لمحجبتين ترتديان طرحتين حمراوين، فتحت الإشارة ولم يتحرك من مكانه، منهمكا في متابعة ما يحدث حوله في الشارع، يكاد يشتري علما ثانيًا يخرجه من الشباك بجواره، يسير علي غير هدي لا يبحث عن زبائن فرحًا فخورًا لأنه ينتمي لهذا الوطن وهذا الشعب، سار في الشوارع بالتاكسي القديم الذي يملكه فرحا يزمر بصوت الكلاكس المتحشرج يهتف مع الهاتفين يصرخ مع الفرحين، مصر مصر مصر، لوح له أحد الركاب، وقف له وأركبه، سار السائق لم يسأله عن وجهته، الشوارع زحمة والسيارات لاتتحرك وراديو السيارة عالي والسائق مبتسم، سأله الراكب متعجبا مالك ياحاج مبسوط ليه فاتسعت ابتسامته اكثر كشفت عن اسنان كثيرة أوقعتها الأيام والسنين والمحن، اتسعت ابتسامته أكثر وقال علشان الناس مبسوطة!! ابتسم الراكب يارب دايمًا واكمل السائق سيره في الشوارع المزدحمة!.
< كانت سيارات النقل الكبيرة تجري تنهب الطريق الدائري، تطلع صفارات عالية علي نغمات ياحبيبتي يامصر التي تنبعث بصوت عال من جميع السيارات، أعلام الوطن ترفرف فوق السيارات خفاقة عالية، كل سيارة نقل وكل مقطورة وكل لوري يحمل أعلاما أربعة أو اكثر، الكل سعيد يغني الكل فخور بالانتماء لهذا الوطن الذي يرفع رايته خفاقة عالية، بعض الشباب يطل من سياراته يحيي سائقي النقل، فيردوا لهم التحية زغاريد خشنة من الكلاكسات القوية يصرخ أحدهم من شباك سيارته يارب يرد عليه العشرات في جميع السيارات يارب وتبتسم إحدي السيدات تقود سيارتها الصغيرة وسط الطريق المزدحم مثل عصفور صغير يجري بين الوحوش، تبتسم وتنظر للطريق تخفق فيه الأعلام من جميع المقاسات تطير مع الهواء تزركشه بالفرحة والانتماء للوطن، تبتسم السيدة فرحة ثم تتحمس وتصرخ يارب ننبسط! < كان بائعو الأعلام الشباب يرفعون الأعلام فوق رءوسهم، يلوحون بها في الشوارع، يمسك كل منهم ناصية شارع، يرتدون البرانيط والأقنعة ملونة بلون علم مصر، يلوحون بالأعلام، يناديهم قائدو السيارات، يهرولون يبيعونهم الأعلام فرحين، يلوح قائد السيارة بعلمه الجديد، يلوح البائع ببقية الأعلام، يدب الحماس في الشارع، الكل يشتري أعلامًا، يقترب رجل رقيق الحال من بائع الأعلام بيده ابنه الصغير تلمع عيونه بالفرحة، يطالبه بعلم للصغير، يقبض الصغير علي علم كبير عصاه أطول منه، لكن الأب يناوله علمًا صغيرًا يلوح له به في وجهه يغريه بحمله، لكن الصغير يتمسك برأيه، يتفاوض الأب مع البائع علي ثمن العلم، الصغير يكاد يبكي لايرغب إلا في العلم الكبير، تقترب سيارة كبيرة من البائع تشتري مجموعة أعلام كبيرة ببساطة وبدون فصال، مازال الصغير يقبض علي العلم الكبير ومازال الأب حائرا، تتعالي الصافرات في الشارع تهتف مصر مصر، يبتسم البائع في وجه الصغير ويناوله العلم الكبير ويرفض أخذ ثمنه من الأب ده مني له أصل وشه حلو علي ويقبض الصغير علي العلم ويبتلع دموعه ويصرخ مصر ويكاد يطير مع علمه الكبير سعيدا ويصرخ مصر فيصرخ بائع الأعلام اكرمنا يارب ويسير الأب وابنه سعيدين يخفق فوق رأسيهما علم كبير عاليا ويذوبان في الزحام بين كل الفرحين ويارب تفرحنا. < وقفت البائعة داخل الفاترينة الزجاج لمحل الفساتين السواريه الفاخرة تنظمها، ترص عرائس العرض الخشبية، انتبه أحد المارة في الشارع أن واحدة من العرائس ترتدي فستانًا احمر، وقف امام المحل يتابع ما يحدث، اقترب منه ثاني وثالث، يحملون الأعلام ويرتدون القبعات العالية، عرضت البائعة العروسة الخشبية الثانية ترتدي فستانا أسود، ازداد الحشد امام المحل يلوحون لها فرحين، تلوح لهم وتنادي زميلاتها يعاونها في ضبط العرائس بالفاترينة، يهتف بعض الشباب أمام المحل مصر مصر، تبتسم البائعة وتعرض العروس الخشبية الثالثة ترتدي فستانا ابيض، ينفجر المارة أمام المحل بالتصفيق، تتعالي الهتافات باسم الوطن، لقد صنعت البائعة علم مصر بألوانه الثلاث بعرائسها الخشبية وفساتينهن اللامعة الساطعة احمر أبيض اسود، يتعالي الهتاف والصخب والتصفيق والتصفير وترتفع أعلام العلم عالية فوق الهامات، تودع البائعة الحشد امام فاترينتها مبتسمة وهي ترفع عينيها للسماء فيرد عليها الحشد الفرح أمام المحل يارب نكسب وتغيب عن عيونهم ويكملون سيرهم بعيدًا عن المحل وتبقي عرائسها الخشبية في الفاترينة تسطع بالبهجة وحب الوطن ويارب نكسب! < اقتربت فتاة من أطفال الشوارع، صغيرة رثة الملابس قذرة الوجه باسمة العينين من مجموعة من الشباب يقفون أمام أحد محلات بيع الأطعمة، اقتربت منهم تبتسم بسعادة، كانوا يأكلون بنهم ويضحكون، الثانية بعد منتصف الليل والشوارع مزدحمة كأننا في عز الضهر، السيارات تلف الميدان مرة واثنتين وعشرة، ترفرف منها الأعلام، يلوح بها أطفال وفتيات جميلات، بعضهم يعتلي نافذة السيارة، بعضهم يخرج من فتحة السقف، أنه حي راق يقطنه الأثرياء ويمشي في شوارعه أبناء الأحياء الشعبية والعشوائيات المحيطة به، جميعهم يحملون أعلامًا كأن فريقنا كسب المباراة فعلا، علي وجوههم جميعا تعبير واحد لايتغير ثقة في الفريق وأملاً في الفوز، تقترب الفتاة من الشباب، تتابعهم وهم يأكلون يضحكون، تقترب اكثر، ينتبه لوجودها أحد الشباب، يري نظراتها تتابعهم، يشعر نهما في عينها، يقف الأكل في زوره يمد يده لها بساندوتش، تأخذه فرحة ولاتتحرك من مكانها، ينظر لها بقية الشباب، يكاد أحدهم يهشها لكن الابتسامة الجميلة التي تزين وجهها القذر تمنعه، يقترب أحدهم منها يسألها عايزة حاجة ياشاطرة تهز رأسها وهي تقبض علي الساندوتش علم ينفجر الشباب في الضحك والصخب وده أنت داخلة علي طمع بقي وتضحك بصوت عال مسرسع وتهز رأسها كأنها توافقهم فهي تطمع في أكثر من الساندوتش، يناولها أحدهم علمًا صغيرة، تخطفه من يده وتجري فرحة بالساندوتش والعلم ربنا يخليكم يارب وتجري تلوح بالعلم بين السيارات وهي تتراقص، تأخذ قضمة كبيرة من السندوتش وتهتف وفمها مليء بالطعام مصر، مصر وتتسع ابتسامتها أكثر وأكثر! حوارات ليلة ما قبل المباراة
< كنت في أحد الأماكن مع صديقتين نتناول طعام العشاء، المكان مزدحم بالرواد، الوقت متأخر بعد منتصف الليل، لكن الجميع ملتصقون بالمقاعد يحدقون في شاشات التلفزيون التي تملأ المكان، المكان صخب، يصرخ أحدهم في الجرسون غاضبا لأن الأكل بارد، يبتسم الجرسون ويغير الطبق بسرعة، تغني شيرين ماشربتش من نيلها، تتسلل الفرحة للقلوب فيبتسم جميع الجالسين بلا اتفاق مسبق، تتلاقي أعين الغرباء الجالسين علي المناضد البعيدة، يتبادلون الابتسامات، تهمس الشفاه بالدعاء، تعرض إحدي القنوات أهداف فريقنا القومي في المباريات السابقة، يتحمس أحد الرجال بعيدًا ويهتف يارب، أهمس وصديقتي يارب يعلو صوت شادية ياحبيبتي يامصر أحس الدموع تخنقني تكاد تنهمر علي وجهي، مشاعر مختلطة تحتلني، لا أشعر رغبة في الأكل لكني لا أرغب في العودة للمنزل، توافقني صديقتي كأنها تسمع حواري الداخلي مش عايزة أروح خالص نفسي أفضل هنا لغاية بكرة تبتسم ثالثتنا بكرة مش حنعرف نروح من الزحمة ثم تنتبه لحديثها فترتبك قصدي يعني إن شاء الله لما نكسب يرفع الجرسون الأكواب الفارغة ويبتسم ويهمس يارب. < نري السيارات في الشارع تلف الميدان، يلوح الشباب منها بالأعلام، تتأفف إحدي السيدات علي منضدة قريبة من الضجيج وبصوت عال تسأل العيال الصيع دي اهلها فين غاضبة من ضجيجهم، أكاد أرد عليها، فابنتاي في الشارع مع غيرهما من الشباب يهتفون باسم مصر، لكني أوثر الصمت، يجيبها الجرسون دي ليلة مفترجة يامدام، ادعي ربنا يكرمنا اتصورها ستتشاجر معه، لكنها تخيب ظنوني وتبتسم وتهمس يارب! < تتصل بي ابنتي تصرخ في التليفون لا أسمع صوتها جيدًا، فالصخب والضجيج حولها والهتافات العالية لاتجعلني افهم كلامها جيدًا ماتقلقيش علينا ياماما وتغلق السكة مسرعة فهي وسط حشد كبير من الشباب الأصدقاء والغرباء يجمعهم في تلك اللحظة بعد منتصف الليل انتماء للوطن وحلم كبير ليس بالتأهل للمونديال بل بالفرحة بالوطن والفخر به، جميعهم يأنسون ببعض يدعمون بعض يغنون معا ياحبيبتي يامصر يصرخون معا أهم أهم أهم المصريين أهم أكاد أرد عليها أنا مش قلقانة وابتسم مش قلقانة عليكي لكني قلقانة علي هذا الوطن الذي يكاد ينفجر شعبه من كثرة الحب والتمني والرجاء، قلقانة علي هذا الشعب ألا يفرح مثلما يستحق، لكنها تغلق الخط بسرعة وأعود أنا لصديقاتي نتقاسم القلق والحلم! < يحتدم حوار علي إحدي المناضد البعيدة، مجموعة رجال منفعلين، يعلون صوتهم فوق صوت التلفزيون، يصرخ أحدهم إيه الهيافة دي، خلاص نسيوا كل حاجة ومشغولين بالكورة ينتبه لحواره بقية رواد المكان الشوارع مليانة زبالة، لما هما متحمسين كدة مايروحوا يشيلوا الزبالة بدل التفاهة دي يبتسم الجرسون ساخرًا من حكمة الرجل الأنيق، تنفعل صديقتي وتكاد تشتبك معه يعني حضرتك ماافتكرتش الزبالة إلا النهاردة لكني اقبض علي ذراعها، أرجوها دعيه فحديثه لايخصنا، يرد عليه أحد الرجال الخارجين من المكان طب ماحضرتك تشوف أنت موضوع الزبالة ده علي مانخلص احنا الماتش ويضحك فيضحك بقية الناس ويصمت الرجل المنفعل ويخرج الآخر من المكان يكاد الناس يصفقون له ونضحك وتعلو موسيقي رأفت الهجان كخلفية لصور وأهداف وانتصارات فريقنا القومي ويجتاحنا شعور وطني جارف وحب للوطن وأبطاله في كل مكان وكل زمان وتهمس قلوبنا وعيوننا وألسنتنا يارب!
فرحة ما بعد المباراة
لاشيء يصف ماحدث، لا الكلمات ولا الصور ولاحتي شرائط الفيديو تصف ماحدث. جميعها عاجزة عن وصف فرحة المصريين من جميع الأعمار من جميع الطبقات الاجتماعية من جميع الأماكن، أبناء الوطن وأبناء المهجر، لاشيء أبدًا يصف انفجارهم الصاخب بالفرحة بالفخر في مصر في بلدان الخليج في أوروبا، في اصغر القري والنجوع في القاهرة علي كورنيش اسكندرية في غزة في لندن في السودان في بلجيكا في الكويت في أمريكا، لاشيء يصف ما حدث، ملايين الاعلام المصرية المرفوعة، صراخ فرحة ضجيج هتاف باسم الوطن واسم أبطاله ابنائه المخلصين زغاريد كلاكسات السيارات سجود لله شكرا رقص وطبل وزمر دموع فرح ضحكات السعادة نيران مشتعلة تصفيق تصفير انفعالات جياشة عواطف متدفقة انصهار عميق حقيقي بين أبناء الـشعب الواحد المحبين لهذا الوطن المنتمين له العاشقين لترابه الفخورين به بتاريخه بإنجازاته، لاشيء يصف ماحدث، لم تكن مباراة كرة قدم وانتصار فيها، بل كانت مناسبة وطنية عظيمة ليقول هذا الشعب للجميع أنه يحب هذا الوطن، ليقول هذا الشعب للجميع أنه قادر لو اتيحت له الفرص للنجاح والانتصار، انه قادر علي الانجاز والنجاح والفرحة! أنها مناسبة وطنية عظيمة قال فيها الشعب المصري وكل محبيه واصدقائه كلمتهم للتاريخ، مازال هذا الشعب حيا نابضًا موجودًا فاعلاً قادرًا، مازال هذا الشعب العظيم حيا تخفق راياته عالية بالفرحة والفخر!
الفقرة الأخيرة - يعاني هذا الوطن من مشاكل كثيرة نعرفها جميعا نعيشها جميعًا، لكن في لحظات مثل التي عشناها قررنا ألا نفسد فرحتنا بتلك المشاكل، فهذه المشاكل كانت ومازالت موجودة ولدينا متسع من الوقت لمناقشتها والسعي من أجل حلها وأحداث التغييرات التي نحلم بها ولأن لكل مقام مقال احتفي واحتفل المصريون بفرحتهم بفريقهم القومي بانتصاراته متجاهلين - بوعي وإرادة وتصميم - أي منغصات أو مناقشات أو مشاكل قد تفسد تلك الفرحة عليهم في ذلك الوقت، لذا تعجبت كثيرا وغضبت كثيرًا من عواجيز الفرح الذي استكتروا علي الشعب المصري فرحته فقرروا افسادها ولومه وإدانته علي تلك الفرحة واصمين إياه بأوصاف سخيفة باعتباره تافه، هايف، عبيط، يتضحك عليه بأي حاجة تعجبت وغضبت لأنهم في الحقيقة لايعرفون هذا الشعب ولايفهمون أي شيء في شئونه ولم يقرأوا تاريخه ولم يفهموا نفسيته ولايعرفون طبيعة روحه المقاومة التي لم يفلح أي شيء في كسرها او تقييدها. وياسادة الشعب المصري بخير اكثر مما تتصورون ويحب وطنه أكثر كثيرًا مما تظنون وإذا كنتم لاتصدقونني أرجعوا لما حدث في الأيام الأخيرة وحاولوا فهمه!
الجملة الأخيرة - صدق من قال حق يراد به باطل فهؤلاء الذي تذكروا مشكلة القمامة ومشكلة ارتفاع الأسعار وعدم استخراج بطاقات انتخابية وعدم تداول مقعد السلطة والتزوير في الانتخابات والتحرش الجنسي، الذين تذكروا تلك المشاكل وقرروا أن يفسدوا فرحة المصريين بها وقت احتفالهم وفرحتهم وفخرهم بوطنهم ولو كان بسبب ماتش كورة لم يرددوا تلك المشاكل لأنهم يسعون - في ذلك الوقت بالذات - لحلها بل رددوها لإفساد فرحة المصريين ونشر اليأس في نفوسهم وإشاعة الهم والغم في حياتهم، كأن قدرنا الحزن لافكاك منه، ليس معني هذا أن تلك المشكلات ليست حقيقية ولايعاني منها المصريون فعلا، بل معني كلامي إننا جميعا فهمنا الغرض من إثارة ذلك الحديث في ذلك الوقت باعتباره حديثًا شريرًا ليس له مقصد أو نتيجة مرجوة إلا إفساد فرحة المصريين، والحقيقة أن المصريين فوتوا عليهم تلك الفرصة وفرحوا قدر ما استطاعوا ومازالوا فرحين ويارب تكمل فرحتنا!
السطر الأخير - ياحبيبتي يامصر ....!!!
نشرت في جريده روز اليوسف اليوميه عدد ١٨ نوفمبر ٢٠٠٩
ربط السائق العجوز علم الوطن في شبكة سيارته القديمة المتهالكة أعلي السقف وسار في الشوارع المزدحمة بسياراتها وبالمارة لم يشعر ضيقا من الاختناقات المرورية، يقضي وقت الإشارة الطويلة يسمع الاغاني الوطنية في الراديو وفي التلويح للشباب يحييهم يؤازرهم يغني معهم بصوته الأجش ياحبيبتي يامصر يبتسم في وجه فتاة جميلة ترتدي قميصا أحمر وبنطلونًا أسود وتربط شعرها بشرائط ستان بألوان العلم الثلاث، يلوح لمحجبتين ترتديان طرحتين حمراوين، فتحت الإشارة ولم يتحرك من مكانه، منهمكا في متابعة ما يحدث حوله في الشارع، يكاد يشتري علما ثانيًا يخرجه من الشباك بجواره، يسير علي غير هدي لا يبحث عن زبائن فرحًا فخورًا لأنه ينتمي لهذا الوطن وهذا الشعب، سار في الشوارع بالتاكسي القديم الذي يملكه فرحا يزمر بصوت الكلاكس المتحشرج يهتف مع الهاتفين يصرخ مع الفرحين، مصر مصر مصر، لوح له أحد الركاب، وقف له وأركبه، سار السائق لم يسأله عن وجهته، الشوارع زحمة والسيارات لاتتحرك وراديو السيارة عالي والسائق مبتسم، سأله الراكب متعجبا مالك ياحاج مبسوط ليه فاتسعت ابتسامته اكثر كشفت عن اسنان كثيرة أوقعتها الأيام والسنين والمحن، اتسعت ابتسامته أكثر وقال علشان الناس مبسوطة!! ابتسم الراكب يارب دايمًا واكمل السائق سيره في الشوارع المزدحمة!.
< كانت سيارات النقل الكبيرة تجري تنهب الطريق الدائري، تطلع صفارات عالية علي نغمات ياحبيبتي يامصر التي تنبعث بصوت عال من جميع السيارات، أعلام الوطن ترفرف فوق السيارات خفاقة عالية، كل سيارة نقل وكل مقطورة وكل لوري يحمل أعلاما أربعة أو اكثر، الكل سعيد يغني الكل فخور بالانتماء لهذا الوطن الذي يرفع رايته خفاقة عالية، بعض الشباب يطل من سياراته يحيي سائقي النقل، فيردوا لهم التحية زغاريد خشنة من الكلاكسات القوية يصرخ أحدهم من شباك سيارته يارب يرد عليه العشرات في جميع السيارات يارب وتبتسم إحدي السيدات تقود سيارتها الصغيرة وسط الطريق المزدحم مثل عصفور صغير يجري بين الوحوش، تبتسم وتنظر للطريق تخفق فيه الأعلام من جميع المقاسات تطير مع الهواء تزركشه بالفرحة والانتماء للوطن، تبتسم السيدة فرحة ثم تتحمس وتصرخ يارب ننبسط! < كان بائعو الأعلام الشباب يرفعون الأعلام فوق رءوسهم، يلوحون بها في الشوارع، يمسك كل منهم ناصية شارع، يرتدون البرانيط والأقنعة ملونة بلون علم مصر، يلوحون بالأعلام، يناديهم قائدو السيارات، يهرولون يبيعونهم الأعلام فرحين، يلوح قائد السيارة بعلمه الجديد، يلوح البائع ببقية الأعلام، يدب الحماس في الشارع، الكل يشتري أعلامًا، يقترب رجل رقيق الحال من بائع الأعلام بيده ابنه الصغير تلمع عيونه بالفرحة، يطالبه بعلم للصغير، يقبض الصغير علي علم كبير عصاه أطول منه، لكن الأب يناوله علمًا صغيرًا يلوح له به في وجهه يغريه بحمله، لكن الصغير يتمسك برأيه، يتفاوض الأب مع البائع علي ثمن العلم، الصغير يكاد يبكي لايرغب إلا في العلم الكبير، تقترب سيارة كبيرة من البائع تشتري مجموعة أعلام كبيرة ببساطة وبدون فصال، مازال الصغير يقبض علي العلم الكبير ومازال الأب حائرا، تتعالي الصافرات في الشارع تهتف مصر مصر، يبتسم البائع في وجه الصغير ويناوله العلم الكبير ويرفض أخذ ثمنه من الأب ده مني له أصل وشه حلو علي ويقبض الصغير علي العلم ويبتلع دموعه ويصرخ مصر ويكاد يطير مع علمه الكبير سعيدا ويصرخ مصر فيصرخ بائع الأعلام اكرمنا يارب ويسير الأب وابنه سعيدين يخفق فوق رأسيهما علم كبير عاليا ويذوبان في الزحام بين كل الفرحين ويارب تفرحنا. < وقفت البائعة داخل الفاترينة الزجاج لمحل الفساتين السواريه الفاخرة تنظمها، ترص عرائس العرض الخشبية، انتبه أحد المارة في الشارع أن واحدة من العرائس ترتدي فستانًا احمر، وقف امام المحل يتابع ما يحدث، اقترب منه ثاني وثالث، يحملون الأعلام ويرتدون القبعات العالية، عرضت البائعة العروسة الخشبية الثانية ترتدي فستانا أسود، ازداد الحشد امام المحل يلوحون لها فرحين، تلوح لهم وتنادي زميلاتها يعاونها في ضبط العرائس بالفاترينة، يهتف بعض الشباب أمام المحل مصر مصر، تبتسم البائعة وتعرض العروس الخشبية الثالثة ترتدي فستانا ابيض، ينفجر المارة أمام المحل بالتصفيق، تتعالي الهتافات باسم الوطن، لقد صنعت البائعة علم مصر بألوانه الثلاث بعرائسها الخشبية وفساتينهن اللامعة الساطعة احمر أبيض اسود، يتعالي الهتاف والصخب والتصفيق والتصفير وترتفع أعلام العلم عالية فوق الهامات، تودع البائعة الحشد امام فاترينتها مبتسمة وهي ترفع عينيها للسماء فيرد عليها الحشد الفرح أمام المحل يارب نكسب وتغيب عن عيونهم ويكملون سيرهم بعيدًا عن المحل وتبقي عرائسها الخشبية في الفاترينة تسطع بالبهجة وحب الوطن ويارب نكسب! < اقتربت فتاة من أطفال الشوارع، صغيرة رثة الملابس قذرة الوجه باسمة العينين من مجموعة من الشباب يقفون أمام أحد محلات بيع الأطعمة، اقتربت منهم تبتسم بسعادة، كانوا يأكلون بنهم ويضحكون، الثانية بعد منتصف الليل والشوارع مزدحمة كأننا في عز الضهر، السيارات تلف الميدان مرة واثنتين وعشرة، ترفرف منها الأعلام، يلوح بها أطفال وفتيات جميلات، بعضهم يعتلي نافذة السيارة، بعضهم يخرج من فتحة السقف، أنه حي راق يقطنه الأثرياء ويمشي في شوارعه أبناء الأحياء الشعبية والعشوائيات المحيطة به، جميعهم يحملون أعلامًا كأن فريقنا كسب المباراة فعلا، علي وجوههم جميعا تعبير واحد لايتغير ثقة في الفريق وأملاً في الفوز، تقترب الفتاة من الشباب، تتابعهم وهم يأكلون يضحكون، تقترب اكثر، ينتبه لوجودها أحد الشباب، يري نظراتها تتابعهم، يشعر نهما في عينها، يقف الأكل في زوره يمد يده لها بساندوتش، تأخذه فرحة ولاتتحرك من مكانها، ينظر لها بقية الشباب، يكاد أحدهم يهشها لكن الابتسامة الجميلة التي تزين وجهها القذر تمنعه، يقترب أحدهم منها يسألها عايزة حاجة ياشاطرة تهز رأسها وهي تقبض علي الساندوتش علم ينفجر الشباب في الضحك والصخب وده أنت داخلة علي طمع بقي وتضحك بصوت عال مسرسع وتهز رأسها كأنها توافقهم فهي تطمع في أكثر من الساندوتش، يناولها أحدهم علمًا صغيرة، تخطفه من يده وتجري فرحة بالساندوتش والعلم ربنا يخليكم يارب وتجري تلوح بالعلم بين السيارات وهي تتراقص، تأخذ قضمة كبيرة من السندوتش وتهتف وفمها مليء بالطعام مصر، مصر وتتسع ابتسامتها أكثر وأكثر! حوارات ليلة ما قبل المباراة
< كنت في أحد الأماكن مع صديقتين نتناول طعام العشاء، المكان مزدحم بالرواد، الوقت متأخر بعد منتصف الليل، لكن الجميع ملتصقون بالمقاعد يحدقون في شاشات التلفزيون التي تملأ المكان، المكان صخب، يصرخ أحدهم في الجرسون غاضبا لأن الأكل بارد، يبتسم الجرسون ويغير الطبق بسرعة، تغني شيرين ماشربتش من نيلها، تتسلل الفرحة للقلوب فيبتسم جميع الجالسين بلا اتفاق مسبق، تتلاقي أعين الغرباء الجالسين علي المناضد البعيدة، يتبادلون الابتسامات، تهمس الشفاه بالدعاء، تعرض إحدي القنوات أهداف فريقنا القومي في المباريات السابقة، يتحمس أحد الرجال بعيدًا ويهتف يارب، أهمس وصديقتي يارب يعلو صوت شادية ياحبيبتي يامصر أحس الدموع تخنقني تكاد تنهمر علي وجهي، مشاعر مختلطة تحتلني، لا أشعر رغبة في الأكل لكني لا أرغب في العودة للمنزل، توافقني صديقتي كأنها تسمع حواري الداخلي مش عايزة أروح خالص نفسي أفضل هنا لغاية بكرة تبتسم ثالثتنا بكرة مش حنعرف نروح من الزحمة ثم تنتبه لحديثها فترتبك قصدي يعني إن شاء الله لما نكسب يرفع الجرسون الأكواب الفارغة ويبتسم ويهمس يارب. < نري السيارات في الشارع تلف الميدان، يلوح الشباب منها بالأعلام، تتأفف إحدي السيدات علي منضدة قريبة من الضجيج وبصوت عال تسأل العيال الصيع دي اهلها فين غاضبة من ضجيجهم، أكاد أرد عليها، فابنتاي في الشارع مع غيرهما من الشباب يهتفون باسم مصر، لكني أوثر الصمت، يجيبها الجرسون دي ليلة مفترجة يامدام، ادعي ربنا يكرمنا اتصورها ستتشاجر معه، لكنها تخيب ظنوني وتبتسم وتهمس يارب! < تتصل بي ابنتي تصرخ في التليفون لا أسمع صوتها جيدًا، فالصخب والضجيج حولها والهتافات العالية لاتجعلني افهم كلامها جيدًا ماتقلقيش علينا ياماما وتغلق السكة مسرعة فهي وسط حشد كبير من الشباب الأصدقاء والغرباء يجمعهم في تلك اللحظة بعد منتصف الليل انتماء للوطن وحلم كبير ليس بالتأهل للمونديال بل بالفرحة بالوطن والفخر به، جميعهم يأنسون ببعض يدعمون بعض يغنون معا ياحبيبتي يامصر يصرخون معا أهم أهم أهم المصريين أهم أكاد أرد عليها أنا مش قلقانة وابتسم مش قلقانة عليكي لكني قلقانة علي هذا الوطن الذي يكاد ينفجر شعبه من كثرة الحب والتمني والرجاء، قلقانة علي هذا الشعب ألا يفرح مثلما يستحق، لكنها تغلق الخط بسرعة وأعود أنا لصديقاتي نتقاسم القلق والحلم! < يحتدم حوار علي إحدي المناضد البعيدة، مجموعة رجال منفعلين، يعلون صوتهم فوق صوت التلفزيون، يصرخ أحدهم إيه الهيافة دي، خلاص نسيوا كل حاجة ومشغولين بالكورة ينتبه لحواره بقية رواد المكان الشوارع مليانة زبالة، لما هما متحمسين كدة مايروحوا يشيلوا الزبالة بدل التفاهة دي يبتسم الجرسون ساخرًا من حكمة الرجل الأنيق، تنفعل صديقتي وتكاد تشتبك معه يعني حضرتك ماافتكرتش الزبالة إلا النهاردة لكني اقبض علي ذراعها، أرجوها دعيه فحديثه لايخصنا، يرد عليه أحد الرجال الخارجين من المكان طب ماحضرتك تشوف أنت موضوع الزبالة ده علي مانخلص احنا الماتش ويضحك فيضحك بقية الناس ويصمت الرجل المنفعل ويخرج الآخر من المكان يكاد الناس يصفقون له ونضحك وتعلو موسيقي رأفت الهجان كخلفية لصور وأهداف وانتصارات فريقنا القومي ويجتاحنا شعور وطني جارف وحب للوطن وأبطاله في كل مكان وكل زمان وتهمس قلوبنا وعيوننا وألسنتنا يارب!
فرحة ما بعد المباراة
لاشيء يصف ماحدث، لا الكلمات ولا الصور ولاحتي شرائط الفيديو تصف ماحدث. جميعها عاجزة عن وصف فرحة المصريين من جميع الأعمار من جميع الطبقات الاجتماعية من جميع الأماكن، أبناء الوطن وأبناء المهجر، لاشيء أبدًا يصف انفجارهم الصاخب بالفرحة بالفخر في مصر في بلدان الخليج في أوروبا، في اصغر القري والنجوع في القاهرة علي كورنيش اسكندرية في غزة في لندن في السودان في بلجيكا في الكويت في أمريكا، لاشيء يصف ما حدث، ملايين الاعلام المصرية المرفوعة، صراخ فرحة ضجيج هتاف باسم الوطن واسم أبطاله ابنائه المخلصين زغاريد كلاكسات السيارات سجود لله شكرا رقص وطبل وزمر دموع فرح ضحكات السعادة نيران مشتعلة تصفيق تصفير انفعالات جياشة عواطف متدفقة انصهار عميق حقيقي بين أبناء الـشعب الواحد المحبين لهذا الوطن المنتمين له العاشقين لترابه الفخورين به بتاريخه بإنجازاته، لاشيء يصف ماحدث، لم تكن مباراة كرة قدم وانتصار فيها، بل كانت مناسبة وطنية عظيمة ليقول هذا الشعب للجميع أنه يحب هذا الوطن، ليقول هذا الشعب للجميع أنه قادر لو اتيحت له الفرص للنجاح والانتصار، انه قادر علي الانجاز والنجاح والفرحة! أنها مناسبة وطنية عظيمة قال فيها الشعب المصري وكل محبيه واصدقائه كلمتهم للتاريخ، مازال هذا الشعب حيا نابضًا موجودًا فاعلاً قادرًا، مازال هذا الشعب العظيم حيا تخفق راياته عالية بالفرحة والفخر!
الفقرة الأخيرة - يعاني هذا الوطن من مشاكل كثيرة نعرفها جميعا نعيشها جميعًا، لكن في لحظات مثل التي عشناها قررنا ألا نفسد فرحتنا بتلك المشاكل، فهذه المشاكل كانت ومازالت موجودة ولدينا متسع من الوقت لمناقشتها والسعي من أجل حلها وأحداث التغييرات التي نحلم بها ولأن لكل مقام مقال احتفي واحتفل المصريون بفرحتهم بفريقهم القومي بانتصاراته متجاهلين - بوعي وإرادة وتصميم - أي منغصات أو مناقشات أو مشاكل قد تفسد تلك الفرحة عليهم في ذلك الوقت، لذا تعجبت كثيرا وغضبت كثيرًا من عواجيز الفرح الذي استكتروا علي الشعب المصري فرحته فقرروا افسادها ولومه وإدانته علي تلك الفرحة واصمين إياه بأوصاف سخيفة باعتباره تافه، هايف، عبيط، يتضحك عليه بأي حاجة تعجبت وغضبت لأنهم في الحقيقة لايعرفون هذا الشعب ولايفهمون أي شيء في شئونه ولم يقرأوا تاريخه ولم يفهموا نفسيته ولايعرفون طبيعة روحه المقاومة التي لم يفلح أي شيء في كسرها او تقييدها. وياسادة الشعب المصري بخير اكثر مما تتصورون ويحب وطنه أكثر كثيرًا مما تظنون وإذا كنتم لاتصدقونني أرجعوا لما حدث في الأيام الأخيرة وحاولوا فهمه!
الجملة الأخيرة - صدق من قال حق يراد به باطل فهؤلاء الذي تذكروا مشكلة القمامة ومشكلة ارتفاع الأسعار وعدم استخراج بطاقات انتخابية وعدم تداول مقعد السلطة والتزوير في الانتخابات والتحرش الجنسي، الذين تذكروا تلك المشاكل وقرروا أن يفسدوا فرحة المصريين بها وقت احتفالهم وفرحتهم وفخرهم بوطنهم ولو كان بسبب ماتش كورة لم يرددوا تلك المشاكل لأنهم يسعون - في ذلك الوقت بالذات - لحلها بل رددوها لإفساد فرحة المصريين ونشر اليأس في نفوسهم وإشاعة الهم والغم في حياتهم، كأن قدرنا الحزن لافكاك منه، ليس معني هذا أن تلك المشكلات ليست حقيقية ولايعاني منها المصريون فعلا، بل معني كلامي إننا جميعا فهمنا الغرض من إثارة ذلك الحديث في ذلك الوقت باعتباره حديثًا شريرًا ليس له مقصد أو نتيجة مرجوة إلا إفساد فرحة المصريين، والحقيقة أن المصريين فوتوا عليهم تلك الفرصة وفرحوا قدر ما استطاعوا ومازالوا فرحين ويارب تكمل فرحتنا!
السطر الأخير - ياحبيبتي يامصر ....!!!
نشرت في جريده روز اليوسف اليوميه عدد ١٨ نوفمبر ٢٠٠٩
http://www.rosaonline.net/Daily/News.asp?id=29441
الصور المنشوره مع المقال تصويري ليله المباراه الاخيره ومنشوره علي بروفيلي بالفيس بوك
الصور المنشوره مع المقال تصويري ليله المباراه الاخيره ومنشوره علي بروفيلي بالفيس بوك
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق