ما الذي جري في هذه المدينة، القاهرة العاصمة.. كنت أسير في منطقة وسط البلد أتأمل حال العمارات القديمة، تلك العمارات التي بنيت من سنوات طويلة تقترب من المائة عام أو أقل، أتأمل الزخارف والنمانم التي تزينها، تصميم المداخل والنوافذ والشرفات، الأسقف العالية، شكلها المبهج، شرفاتها الحديدية المصنوعة من الحديد المشغول، الأقواس والزهور المنحوتة ببدنها وسور سطوحها، جمال ما بعده جمال، نعم أحزنني كثيرا حال تلك العمارات، بعضها تهالك لم تمتد له يد الصيانة سنوات طويلة، بعضها تساقط بياضه وتهدمت أجزاء منه، بعضها أفسد قاطنوه الذوق المعماري المتميز لتلك العمارات، بتقفيل البلكونات بالألوميتال القبيح وتركيب الأطباق التليفزيونية علي واجهة العمارات، وتغير ألوان الواجهات، بعضها أفسد مستأجري وملاك المحلات، باللافتات الملونة القبيحة المتنافرة الألوان والأشكال، بأشكال وحدات الإضاءة التي يبرزونها علي الواجهة.
وإذا كانت العمارات الكائنة في وسط البلد وأكبر ميادينها عمارات ومباني محظوظة لأنها مازالت تلقي نوعا من الرعاية والصيانة ولو كان قليلاً أو غير مناسب أو لا يكفي، فالأمر المؤكد به أن المناطق المحيطة بوسط البلد من الأحياء القديمة العريقة كالعباسية وشارع الجيش والعتبة والموسكي لا تلقي مبانيها رعاية واهتماماً مثل تلك الكائنة بوسط البلد.
المباني في تلك الأحياء أكل عليها الدهر وشرب، وتهالكت مبانيها وفسد طابعها المعماري وفتح السكان في بدنها شبابيك قبيحة وأغلقوا الشرفات بطريقة قبيحة وتساقط بياض الوجهات بشكل مهين وطليت واجهاتها أو بعض أدوارها بألوان منفرة قبيحة بطريقة رديئة رخيصة وافترست المحال التجارية بدن تلك العمارات باللافتات القبيحة المضيئة اللافتة للنظر والبضاعة المرصوصة في مداخل العمارات وعلي أرصفتها ولم يعد في تلك العمارات إلا بقايا جمال زائل النظر إليه يقهر النفس ويحزن الروح كمثل العجوز الشمطاء التي كانت شابة جميلة لكن السنوات قهرتها وأجبرتها علي ارتداء الشيخوخة والهرم القبيح!!
عمارات الأحياء القديمة العريقة ومبانيها تعاني إهمالاً مخيفًا وتلوثت بالقبح المروع والجميع صامتون قليلو الحيلة أو لا يكترثون فقد اعتادت أعينهم القبح وغلظت قلوبهم فلم يعد إلا المرضي النفسيون الذين يتأثرون بمثل كل ما يحدث وهؤلاء علاجهم عند الأطباء النفسيين بالأدوية المضادة للاكتئاب.. هل كان يفترض من وزارة الثقافة وهي المعنية بنشر الثقافة والفن والجمال والحفاظ علي الذوق العام أن تحافظ علي النمط المعماري الجميل المتميز لتلك المنطقة التي تضاهي كثيراً من مدن أوروبا في جمالها وجمال معمارها، لكن وزارة الثقافة لم تفعل شيئًا، وربما حاولت واصطدمت بإرادة السكان أصحاب المحال والتجارة.
وربما اصطدمت بالمسئولين عن الأحياء، الذين غضوا أبصارهم عن تقفيل البلكونات وتغيير الألوان وتوسيع النوافز، ربما المسئولون بالأحياء حاولوا منع السكان وأصحاب المحال من إفساد تلك العمارات وإفساد طابعها المعماري بتحرير المحاضر التي تحال للمحاكم لوقف الأعمال وإعادة الحال إلي ما كان عليه، ربما نجح بعض المحامين من التلاعب بأحكام القانون وتطويل أمد التقاضي، ربما كثرة القضايا أمام المحاكم والوقت الطويل الذي تأخذه حتي يفصل فيها ابتدائي واستئناف ونقض ساعدت الناس علي التمادي في مخالفتهم للقانون، ربما لم يهتم أحد، لا وزارة الثقافة ولا مسئولو الأحياء ولم تحرر محاضر ضد الناس باعتبارهم أحرارًا في شققهم ومحال تجارتهم، ربما ظلمت المحامين بادعاء تلاعبهم بالقانون.
ربما ظلمت المحاكم وقت تصورت أن تكدس القضايا فيها وبطئ إجراءات التقاضي ساعدت الناس علي مخالفة القانون وعدم احترام نصوصه، ربما القانون ذاته يخلو من أحكام تمنع السكان من إحداث تعديلات في العقارات استئجارهم وملكهم حتي لو كانت عقارات أثرية أو شبه أثرية، ربما ملاك تلك العمارات لم يكترثوا بما يحدثه مستأجروهم ولم يكترثوا بالتغييرات التي يحدثها التجار ومستغلو المحال التجارية في العقارات سواء في الواجهات أو شكل اللافتات التي يعلقونها طالما يدفعون القيمة الإيجارية ومقابل حق الانتفاع والاستغلال، ربما لا أحد يكترس أساسا!!
ربما الأمر أتفه مما أظن في وجهة نظر الجميع، وأن الأمر لا يعدو إلا عمارات سكنية - بصرف النظر عن جمالها - من حق المستأجرين والملاك ومستغلي المحال التجارية أن يتصرفوا فيها مثلما يشاءون حتي لو أفسدوا طابعها المعماري والذوق الجميل الذي بنيت وشيدت به.
لا أعرف بالضبط أين المشكلة، لكني حزينة علي كل ما حدث لأنه حدث وانتهي الأمر، واكتسبت الناس حقوقًا قانونية مع الزمن والوقت أصبح المساس بها صعبًا بل مستحيلاً، فضلا عن أني لا استعدي الأجهزة المعنية - إذا كان هناك أجهزة معنية - علي الناس التي أنفقت علي شققها ومحال تجارتها أموالاً كثيرة غيرت شكل العمارات حتي لو كنت أري تلك التغييرات قبيحة وبلا ذوق، فقط أكتب لأقول إني حزينة جدا لأن القبح يغزو مدينتنا وحياتنا!
آخر كلمة.. أظن أن المهندسين المعماريين ممن يهتمون بجمال التصميمات وتناسق الألوان وشكل المباني وطرازها، أظنهم يعانون حاليا من بطالة فظيعة في هذا البلد، أتمني يمتد بي العمر حتي أري لمساتهم الجمالية علي وجه هذه المدينة العريقة!!
نشرت في جريده روز اليوسف اليوميه الاثنين 8 يونيو 2010
http://www.rosaonline.net/Daily/News.asp?id=66905
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق