هذه مقالتي الأخيرة في الشأن السياسي المصري، بعدها سأكتب في الفن والحب والثقافة والتاريخ والجغرافيا والذكريات وعن المواطنين وأحوالهم والمجتمع وحياته وعن أي شيء إلا السياسة! وربما لا أكتب أساسا!
ما الذي سيحدث في الدنيا، لو قررت ألا أكتب في السياسة وعنها، أو لو قررت ألا أكتب أساسا! لن يحدث شيء! فليس كل الكائنات الإنسانية كائنات سياسية تهتم بالشأن العام وتتفاعل معه وتفكر فيه، بالعكس، قليل جدا من البشر كائنات سياسية ابتلاهم ربهم بنقمة التفكير في الشأن العام، وبقيته وأغلبهم لا يكترثون بكل الصخب والضجيج الذي يدور أساسا حولهم بزعم الاهتمام بهم وبشئونهم! نعم جميعنا نتأثر وسنتأثر بما يحدث حولنا، لكن الطبيعة الإنسانية لا تفترض بالضرورة أن تكون كائنًا سياسيا مهتمًا بالعالم خارجك! وأقصد بالسياسة هنا، الصراع السياسي بين السلطة من ناحية والمعارضة من ناحية أخري بالمعني الواسع للسلطة والحكومة والنظام وبالمعني الواسع للمعارضة أحزابًا وتيارات وشخصيات عامة وأفرادًا!
أقصد بالسياسة هنا، الصراع حول الديمقراطية، التوريث، تداول السلطة، الانتخابات، التغيير، الدستور، كل هذه القضايا وأكثر، جمال مبارك، البرادعي، أيمن نور، حزب التجمع، حزب الوفد، حزب الغد، الإخوان المسلمون، الكنيسة والعلمانيون وأقباط المهجر، وكل القضايا المرتبطة بذلك الهم وما أكثرها!
لن أكتب في السياسة بعد النقطة التي تغلق السطر الأخير من تلك المقالة، وسأظل صامتة إلي ما بعد انتخابات الرئاسة المزمع إجراؤها في عام 2011!
بعد تلك الانتخابات ربما سأعود للكتابة في الشأن السياسي المصري العام، بعدما تكون الصورة الضبابية -كما أراها الآن- قد اتضحت وجرت في النهر مياه كثيرة وانكشف المستور ذلك الذي يجهز له المسرح السياسي لكني لا أراه ولا أفهمه وأنا في الحقيقة أحترم نفسي وعقلي ولست بدجالة كي أكتب عن الأشباح والعفاريت واستنطقهم وأدعي العلم والمعرفة بما لا أراه من ظواهر سياسية وميتافيزيقية غامضة!
هذه مقالتي الأخيرة، لأن ما أقوله لا يهم أحدًا ولا يجدي ولا يغير من كل ما يحدث شيئًا، فما جدوي الهمس وسط الصخب والصراخ والضجيج والعويل والأصوات العالية! ما جدوي المناقشة الموضوعية خفيضة الصوت وسط مشاجرة كبري يشتبك جميع أطرافها بالصراخ والقول والشعارات مع بعضهم البعض في حمي هيستيرية، المناقشة الموضوعية هنا عبث ساذج لا معني له وبلاهة لا قيمة لها مهما بلغت قوة منطقها وبلاغة حجتها! ما جدوي المناقشة الموضوعية وسط طبول الحرب التي تدوي ضرباتها تصم الآذان فلا يسمع أحد أي شيء مما يقال ويرد ويقبل ويرفض دون انتباه حقيقي لكل ما يقال ودلالاته ومعناه وآثاره المستقبلية، ما جدوي الكلام العاقل وسط مباريات كرة القدم التي يشجع فريقيها جمهور من المتعصبين الحمقي هؤلاء الراغبين في قتل وذبح وموت الفريق الآخر انتصارا وسحقا له خروجا عن كل قواعد اللعبة المعروفة! ليس هناك جدوي! هكذا الأمر باختصار!
لا أفهم جيدا ما يحدث، لا أري الصور بكل تفاصيلها، لا أري جدوي من الحديث، لا أحد يهتم بالتفكير فيما يحدث ومحاولة استنباط أسبابه وفهمها، إذن هو الصمت علاجا ناجحا للحيرة الحالية وحتي إشعار آخر!
هذه مقالتي الأخيرة في الشأن السياسي المصري، بعدها سأصمت وأتابع مثل الملايين، سأصمت وأتفرج مثل الملايين، هؤلاء الملايين العازفين عن المشاركة العازفين عن التعبير عن أنفسهم، ربما لأن أحدا لا يعبر عنهم، ربما لأن كل ما يحدث لا يخصهم، ربما لأن كل ما يحدث ليس له أي قيمة عندهم، ربما لأنهم لا يصدقون كل ما يحدث وكل ما يقال، ليس مهمًا السبب في العزوف والصمت، لكنهم صامتون عازفون عن المشاركة حتي بالاهتمام مجرد الاهتمام! وبما أننا نتكلم عن الشعب كثيرا ونزعم أننا نعبر عنه ونفهم رغباته ونتحدث بلسانه، بما أننا نتكلم عن الشعب كثيرا فلا أقل من الانضمام لصفوف أبنائه الصامتين الرافضين للمشاركة في أي شيء مما يحدث حولهم، سأنضم للشعب الصامت يتابع ولا يشارك، يتفرج ولا يلعب، يسخر من كل ما يحدث ولا ينطق، ربما سأصفق أو أغضب أو أرفض أو أقبل كل أو بعض ما يحدث، سأنضم لصفوف الشعب الذي ينتظر بمنتهي الصبر من ستأتي به الأيام يوما ليعبر عنه ويحقق أحلامه المشروعة البسيطة في حياة أفضل وأجمل وأكثر احتراما وإنسانية!
بعد نهاية السطر الأخير في هذه المقالة، سأصمت تماما مثل ملايين المصريين وأكتفي بالمتابعة والمشاهدة و«الفرجة».
في هذه المقالة سأحاول قراءة الواقع، أقول سأحاول، وبعدها سأصمت أنتظر ما الذي سيحدث! وبعدما تجري المياه الكثيرة في النهر وتتضح الصورة وتنكشف عن أوراقها، بعدها سأعود وأكتب، تحليلا لما يحدث! أو لا أكتب أساسا هذا أيضًا ربما لن يفرق!
فما يحدث الآن غير مفهوم غير معقول وربما غير مقبول! سأحاول قراءته في سطوري المقبلة، ربما أفهم وربما يزداد الأمر غموضا فيكون الصمت ضرورة ولحين إشعار آخر!
(1) أحاول قراءة الواقع وفهمه!
نحن علي أعتاب فصل جديد في كتاب الحياة السياسية المصرية!
في 2011 ستتم الانتخابات الرئاسية الجديدة! استعدادا لتلك الانتخابات ما الذي يحدث هذه الأيام علي المسرح السياسي المصري؟!
انتخابات الرئاسة في عام 2011، قبلها انتخابات مجلس الشعب، انتخابات مجلس الشعب ستؤثر علي انتخابات الرئاسة التي ستتم بعدها طبقا لقواعد الدستور، لكن قطاعًا كبيرًا من المعارضة السياسية المصرية لا يفكر في انتخابات مجلس الشعب ولا منشغل بها لكنهم في نفس الوقت يطالبون بتغيير الدستور ليسمح بالترشح للمقعد الرئاسي بلا قيد ولا شرط! لماذا؟ لأنه لا يعجب تلك المعارضة السياسية بالطبع القيود الدستورية الحالية علي الترشح للمقعد الرئاسي سواء ضرورة تأييد عدد من أعضاء مجلسي الشعب والشوري والمجالس المحلية لأي مواطن حتي يمكنه الترشح حسبما حدد الدستور وأيضًا لا يعجبهم ضرورة حصول الحزب السياسي علي نسبة معينة من الأصوات في الانتخابات النيابية كشرط لترشيح أحد قيادات الحزب نفسه للمقعد الرئاسي!
القيود الدستورية لا تعجب المعارضة السياسية، وتطالب بالتغيير! لكني أفكر في اعتراضاتهم ومعناها ونتائجها. هل أوافق عليها؟ وإذا كنت لا أوافق عليها هل هذا يعني أني أدعم الحكومة في مواجهة الشعب وضده!
هم - أي المعارضة السياسية المصرية بجميع فصائلها - يرون أنه من حق أي مواطن مصري أن يترشح لانتخابات المقعد الرئاسي، دون شرط ضرورة تأييد ترشيحه من عدد من الأعضاء النيابيين المنتخبين (باعتبار أن أي مرشح غير مرشح الحكومة لن يحصل علي ذلك التأييد لأن الأعضاء النيابيين المنتخبين سيؤيدون مرشح الحكومة لأنهم كلهم تابعون للحكومة باعتبار أن كل غير الحكوميين سيسقطون في الانتخابات سواء بالتزوير والعنف الحكومي سواء لأي أسباب أخري) إذن تطالب المعارضة بتغيير الدستور لأنها تفترض أنها - أي المعارضة - بكل فصائلها ستفشل في كل الانتخابات النيابية ولن تحصل من كل المجالس النيابية (شعب- شوري- محليات) علي نسبة التأييد اللازمة لإمكانية الترشح للمقعد الرئاسي! وهذا الافتراض هو المبرر المنطقي للمعارضة لطلب إلغاء القيود الدستورية سالفة الذكر هذا من ناحية!
من ناحية أخري فالمعارضة الحزبية تحديدًا تعترض أيضًا علي القيود الدستورية، لماذا، لأن كل الأحزاب تفترض - كمبرر لاعتراضها - أن مرشحي حزبها - في الانتخابات البرلمانية - لن يحصلوا علي نسبة الـ5% من إجمالي الأصوات وبالتالي لأنها لن تحصل علي تلك النسبة، لن تستطيع ترشيح أحد قيادي حزبها لانتخابات المقعد الرئاسي، وبالتالي لن يستطيع إلا الحزب الحاكم الحصول علي ما يزيد علي تلك النسبة وبالتالي لن يقوي أي حزب علي ترشيح أي قيادي من قيادييه للمقعد الرئاسي إلا الحزب الحاكم!
إذن في حقيقة الحال، المعارضة السياسية المصرية تري أن القيود الدستورية ستحول بينها وبين إمكانية تقديم مرشح للمقعد الرئاسي، لأن المعارضة السياسية المصرية تري أنها لن تحصل علي تأييد أعضاء المجالس النيابية ولن تحصل علي نسبة الأصوات المطلوبة من إجمالي الأصوات النيابية للدفع بقياديي الأحزاب للتنافس علي المقعد الرئاسي!
إذن نحن لن نحصل علي النسب المطلوبة للترشح! لكننا نرغب في الترشح!
هل هذا هو الموضوع؟
أليس من حقي ببراءة أسأل وماذا عن فرصها في النجاح! فإذا كانت المعارضة السياسية المصرية مجتمعة تري أنها لن تفلح في إدخال أعضاء في جميع المجالس النيابية (شعب وشوري ومحليات) تكفي لتأييد ولو مرشح واحد تتفق عليه المعارضة كلها لخوض المعركة الانتخابية الرئاسية، وإذا كانت المعارضة السياسية الحزبية تري أن أي حزب لن يفلح في الحصول علي نسبة الـ5% من إجمالي أصوات الناخبين في مجلسي الشعب والشوري تكفي لدفع أحد قياديي ذلك الحزب لخوض المعركة الانتخابية الرئاسية، فلو تصورنا جدلا أن تلك القيود قد رفعت وأصبح حق الترشح مباحًا لأي شخص - بصرف النظر عن صلاحيته وجماهيريته وقوته وتاريخه النضالي وشعبيته - وأصبح من حق المعارضة السياسية المصرية أن تزج في تلك المعركة ليس بمرشح واحد بل بألف مرشح، كيف سينجح هؤلاء المرشحون في الانتخابات؟ ألن ينجحوا بأصوات الناخبين؟ أليس هم ذاتهم الناخبون الذين لم يمنحوا تلك الأحزاب نسبة قليلة من أصواتهم في الانتخابات النيابية تكفي لترشيح أحد قيادييها؟
أم إن هدف المعارضة السياسية المصرية وقت الزج بمرشحيهم للمقعد الرئاسي ليس تصور إمكانية نجاحهم في الانتخابات وإنما فقط إمكانية الترشيح وفقط؟ أم أن المعارضة السياسية المصرية تتصور أنه وقت رفع القيود الدستورية، والزج بعشرات المرشحين، ستتمكن المعارضة - بعصا سحرية - من حشد أصوات الناخبين بالملايين ودفعهم للتصويت لمرشحيها! وإذا كانت المعارضة السياسية المصرية تتصور أنها ستفلح وقتها بحشد أصوات الناخبين بالملايين وإقناعهم بالتصويت لها علي المرشح الرئاسي، فلماذا لم تفلح المعارضة السياسية طوال عمرها في التجربة الديمقراطية الحديثة منذ عام 1976 في إقناع ملايين الناخبين بالتصويت لها في معارك أصغر وأقل أهمية كثيرًا من معركة المقعد الرئاسي! ربما السبب أن الحكومة مستبدة وقمعية وغير ديمقراطية وتزور الانتخابات وتحول بين المعارضة وبين جماهيرها، إذا كان الحال كذلك، ما الذي تتصوره المعارضة بشأن الحكومة إذا ما رفعت القيود الدستورية، هل تتصور أنها ستتبدل لحكومة من الملائكة الديمقراطيين التي ستتيح الفرصة كاملة وبمنتهي الروح الرياضية للمعارضة كي تمارس حقها الديمقراطي في تداول مقاعد السلطة والحكومة والرئاسة!
هل المشكلة التي يعيشها الوطن في أزمة الديمقراطية وتداول مقاعد الحكم، أن الحكومة غير ديمقراطية، أم المشكلة أن المعارضة ضعيفة؟ وهل ضعف المعارضة فقط بسبب عدم ديمقراطية الحكومة أم لأسباب تتعلق بالمعارضة ذاتها! لماذا لا يؤيد الشعب المعارضة؟
هل لأنه يؤيد الحكومة وراض عنها؟ هل لأن المعارضة لا تعجبه؟ هل لأنه خائف من تأييدها خوفا من بطش الحكومة؟ أم أن الشعب لا يفكر في الأمر أساسًا؟ هل المشكلة في الشعب ذلك السلبي الذي لا يشارك في العملية الانتخابية أساسًا ولم يستخرج بطاقات انتخابية رافضا المشاركة في تلك اللعبة، ومن استخرج منه بطاقات انتخابية استخرجها لأسبابه الخاصة البعيدة عن الصراع بين الحكومة والمعارضة، وحين تبدأ الانتخابات يبيع صوته الانتخابي لمن يدفع أكثر أو ينتخب من يمليه عليه ضميره القبلي أو العائلي بصرف النظر عن السياسة ودهاليزها؟ هل المشكلة في القيود الدستورية، أم المشكلة في طريقة الانتخابات وعدم نزاهتها وعدم شفافيتها، أم المشكلة في عزوف الناس عن المشاركة في الانتخابات، أم المشكلة في عقلية الناخب الذي مستعد لبيع صوته لمن يدفع أكثر أو تقديمه علي طبق من فضة لابن العشيرة أو القبيلة أو العائلة أو لصاحب السطوة أو النفوذ أو الجاه!
أين المشكلة؟ أليس مهما أن نفهم ما الذي يحدث حولنا؟
إذا فهمنا وشخصنا الداء أمكننا معرفة الدواء! أين المشكلة؟
(2) أحاول قراءة الواقع وفهمه!
أفكر كثيرًا حتي يكاد رأسي يحترق، أتابع كل ما يحدث حولي، أتأمل أخبار الصحف والمانشتات، تعليقات القراء علي مواقع الصحف علي الإنترنت، تعليقات الناس علي الفيس بوك، أقرأ بعناية السطور وما بين السطور، أنصت للحوارات الخاصة بين البشر، أقرأ ملامح وجوههم، أحاول استشف المسكوت عنه، أحتار كثيرًا في فهم ما يحدث، لا أصدق أنه بالطريقة التي يحدث بها! أشك كثيرًا في فهمي وإدراكي لما يحدث، أراجع قناعاتي، مواقفي السياسية، أحلامي للوطن، أراجع كل شيء، أتعجب من نفسي أولاً، لماذا لا أفهم ما يحدث، بل لماذا لا يعجبني، لماذا لا أتحمس له، أقرأ كل خبر بعناية، ما هو المقصود من نشره، ما هو الخطاب الذي يتضمنه، ما هي النتيجة التي يهدف إليها المتحدث أو الكاتب أو المعلق، ما هي النتيجة التي سنصل إليها، ما هي النتيجة التي يدفعنا إليها!
بعض المصريين غاضبون من حال الوطن وحالهم، بعضهم غاضبون، ربما الجميع، لا أعرف! لكن إذا كان الجميع غاضبين حسب زعم بعض الأحزاب والتيارات والقوي السياسية، إذا كان الجميع غاضبين، لماذا لم يقو الغاضبون وهم الجميع لماذا لم يقووا علي إجراء التغيير المنشود لهؤلاء «الجميع»!
سؤال مهم يشغلني وأفكر فيه كثيرًا! هل الثمانون مليون مصري وأكثر جميعهم ضد حكومة الحزب الوطني وسياساتها الاقتصادية الاجتماعية؟ وإذا كان الثمانون مليون مصري وأكثر فعلاً ضد الحكومة ورافضين لسياساتها ولا أقول معارضين لأن المعارضة حالة إيجابية تتجاوز الرفض للتعبير عنه، إذا كانوا جميعهم فعلا ضد الحكومة، لماذا لم يتجاوز هؤلاء الملايين حالة السلبية لحالة المعارضة الإيجابية.
لماذا لم يسع هؤلاء الملايين، ويبذلوا مجهودًا لتغيير تلك الحكومة التي يرفضونها! هل لأنهم مازالوا في مرحلة الرفض السلبي ولم يتجاوزوها لمرحلة المعارضة والفعل الإيجابي؟ هكذا يقول البعض، الشعب المصري سلبي! ويركن إلي تلك السلبية لتبرير عزوفه وانصرافه عن الشأن السياسي كله! لكن هذا قول متناقض غير منطقي، الجميع غاضب الجميع سلبي الجميع عازف عن المشاركة الجميع ينتظر النخب السياسية - حسب تصورات النخب السياسية وليس حسب ما أفصح عنه الشعب - لتأتي له بالعصا السحرية تغير حاله وأوضاعه التي يكرهها ويتمني تغييرها! أظن هذا كلامًا غير حقيقي وغير واقعي!
أظن أن الادعاء بأن الثمانين مليونًا غاضبون رافضون معادون لحكومة الحزب الوطني ادعاء غير صحيح وغير حقيقي، نعم يتردد كثيراً هذا الكلام ليبدو حقيقيا لكني أظنه غير حقيقي! وإذا كان كلامي الأول يصف أمراً غير حقيقي رغم الترويج له ليبدو حقيقيا وواقعيا، فما هو الحقيقي؟ الجميع راضون عن الحكومة وسعداء بها ويصفقون لها طيلة الوقت، هل هذا حقيقي؟ هل الجميع راضون سعداء والنخب السياسية تعيش وهماً زائفاً؟ لا.. هذا أيضاً ظن غير حقيقي وغير واقعي! إذن ما هو الحقيقي الواقعي.. أليس مهمًا أن نفهم لنتصرف؟ أليس تشخيص الداء أول طريق العلاج، وما هو الداء يا أيها الأطباء الماهرون؟
لماذا أشعر بأن المجتمع المصري اليوم يعيش حالة مثل تلك التي عاشها العميان في الأسطورة الهندية وقت التفوا حول الفيل وتباروا في وصفه حسبما أحسه كل منهم، من وضع يده علي «الزلومة» وصف الفيل باعتباره رفيعًا اسطوانيا يعلو ويهبط، ومن وضع يده علي «البطن» وصف الفيل باعتباره عريضًا كبيرًا رخوًا، ومن وضع يده علي «الساق» وصف الفيل باعتباره كجذع شجرة أسطواني يعلوه سقف صلب!
كان جميعهم يصف ما يحسه ويشعر به لكن كلاً منهم يصف وصفاً منقوصاً غير دقيق لا يتجاوز مساحات إحساسه الشخصي!
هل فعلاً المصريون حكومة ومعارضة وشعبًا مثل العميان في الأسطورة الهندية، كل منا يصف ما يراه وفقط لكنه لا يصف الحقيقة!
(3) مازلت أحاول قراءة الواقع!
إذا كان بعض الثمانين مليونًا رافضين للحكومة وبعضهم راضيا عنها وربما داعمًا لها، فكم نسبة الراضين المؤيدين لنسبة الرافضين المعارضين؟ هل تعرف الحكومة من الذي يؤيدها ولماذا يؤيدها؟ هل تعرف من الذي يرفضها ولماذا يرفضها؟ هل تعرف المعارضة بكل فصائلها المختلفة من الذي يؤيدها ولماذا يؤيدها؟ ومن الذي يرفضها ولماذا يرفضها؟ أسئلة كثيرة تحيرني أفكر فيها كثيراً ولا أجد لها إجابات.
أسئلة تفرض نفسها علي وسط صخب وضجيج سياسي رهيب، صخب تسمع قرقعته في وسائل الإعلام والفضائيات والبرامج الحوارية وتقرأ عنه في الصحف والمجلات والمانشيتات الصحفية الساخنة، صخب سياسي وضجيج قد يخدع المراقبين أحياناً ويشير لما ليس حقيقيا، أو يشكل جزءًا من الحقيقة لكن ليس كلها!
ما الذي يحدث؟
التيارات السياسية المعارضة باختلافاتها الكثيرة لا تتفق إلا علي زعم مفاده أن الشعب كله ضد الحكومة غاضب من سياساتها رافض لتوجهاتها يتمني تغييرها، وهذا التصور يقودنا بالضرورة لنتيجة واحدة حسب تصورات المعارضة، هي ضرورة سعي الشعب للتغيير وإصراره عليه، لكن الشعب ساكن وساكت لا يسعي للتغيير حسب تصورات المعارضة، فالواقع الحقيقي يتناقض مع افتراض المعارضة الذي تروج له في جرائدها وتصريحات زعمائها طيلة الوقت.. التيارات السياسية تصف معضلة تستعصي علي الملائمة، الجميع غاضب لكن الجميع سلبي ساكن!
في نفس الوقت التيارات السياسية المعارضة لم تفسر لنا المعضلة التي نعيشها - حسب ادعاءاتها - من أن الشعب كله ضد الحكومة ومفترض نظريا أنه يؤيدها- أي المعارضة - ورغم هذا فإن ذلك الشعب نفسه لا ينتخب المعارضة ولا ينشط في صفوفها ولا يدعمها، فالشعب مازال بعيدا عن عضوية الأحزاب ومقاراتها الحزبية ودعم مرشحيها انتخابيا!! أم إن ما تصفه التيارات السياسية المعارضة ليس وصفا حقيقيا دقيقا للواقع، والأمر لا يعدو مرآة ينظرون فيها فيرون الغضب المرتسم علي وجوههم كأنه الحقيقة الوحيدة في الحياة!
بل إذا كان الجميع غاضبين كما يقول البعض، فهل الجميع غاضبون لنفس الأسباب، وهل الجميع يهدفون للتغيير بنفس الشكل ونفس النتيجة؟
أنا شخصيا لا أظن أن الجميع غاضبون لذا أقول حسبما أري أن بعض المصريين غاضبون من حال الوطن، غاضبون من الدستور، غاضبون من الحكومة، غاضبون من الحزب الوطني وهؤلاء الغاضبون يصرخون يطالبون بالتغيير، لكن حتي هؤلاء الغاضبين ليسوا متماثلين ليسوا متطابقين لا ينبعث غضبهم من بوتقه واحدة، ولا يهدف لنتيجة واحدة، الغاضبون يصرخون يطالبون بالتغيير لكنهم لا يقولون ما هو شكل التغيير المنشود، ولا يقولون ما هو شكل المجتمع الذي سيأتي به التغيير، ربما يرد علي البعض بأنه ليس مهما شكل التغيير ولا مهمًا شكل المجتمع الذي سيكون، إنما المهم التغيير والتغيير فقط.
ووصولا للتغيير الذي لم يقل أحد شكله، يتكاتف - كل أو بعض - السياسيين المعارضين المختلفين مع الحكومة والنظام الرافضين لهم، يتكاتفون جميعا علي اختلاف أفكارهم وآرائهم السياسية والاجتماعية والعقائدية والاقتصادية يتكاتفون لحشد وتجميع الغاضبين- علي اختلاف أسباب الغضب ومستهدفاته - وشحذ غضبهم وصولا للتغيير الذي أصبح من وجهة نظر هؤلاء هدفا عظيما ساميا، أما بعد التغيير - بفرض النجاح في الوصول إليه - فوقتها «يحلها الحلال»!
التغيير وفقط هو الهدف، ليس مهما «لايه» ولا «ازاي»، المهم التغيير هو الهدف!! بل ربما تكون الفوضي من وجهة نظر هؤلاء هي الهدف في حد ذاته! الفوضي! وربما تكون الفوضي من أجل التغيير!
(4) مازلت أحاول قراءة الواقع!
ربما يكون هذا هو الهدف! الفوضي من أجل التغيير! ربما يكون هذا هو الهدف الحقيقي لكل ما يحدث، أي شيء غير ما هو موجود، أحسن أسوأ، هذا ليس أمرًا مهمًا، المهم التغيير التغيير!! فالغضب غير المنظم غير السياسي، الغضب من كل شيء وأي شيء، الغضب الذي يشحذه الكثيرون كل يوم.. ينفخون في ناره لتشتعل حريقا مروعا، لن ينتج حياة ديمقراطية سليمة وتداول سلطة ومقاعد الحكم، هذا الغضب لن يثمر إلا فوضي عارمة متجاوزًا كل الأطر وكل القواعد وكل الأفكار وكل البرامج، لن يثمر إلا فوضي عامة مخيفة ربما تؤدي لتغيير لكنه تغيير كارثي مأساوي!
ربما يقول لي قائل: وما لها الفوضي؟ أليست أجمل من الجمود والركود والرتابة ومما نحن فيه؟! وربما يقول لي قائل: لماذا ترفضين التغيير، هل يعجبك ما يعيشه الوطن.. هل تعجبك حياتنا اليومية ومشقتها؟ لا لا يعجبني ما يعيشه الوطن ولا ما يعيشه المواطنون، ولي في شأن حياتنا انتقادات عظيمة، لكني في نفس الوقت أري أن حياتنا التي نعيشها بكل عيوبها ومساوئها واعتراضاتي ورفضي وانتقاداتي لها تعد رحمة ورفاهية تهون بجوار أشكال وأنواع أخري لحياة أخري أبشع وأسوأ وأفسد، قد نجد أنفسنا والوطن قد انزلقنا إليها ونحن نلهث بحماس شديد خلف شعار التغيير الغامض أو الفوضي التي تقود للتغيير!
في نفس الوقت إن وصلنا لهذا المستوي العبثي غير المسئول في المنافسة والاستهتار «ومالها الفوضي» ونحن نتكلم عن الوطن وحالة ومستقبل أبنائه، لا أملك إلا الغضب والصمت!، لماذا، لأن الوطن ليس ورقة كوتشينة نلعب بها باستهتار علي منضدة القمار، ولأن حياة المواطنين ليست بخسا للحد الذي نغامر بها دون اكتراث!! والفوضي تظل فوضي.. حالة سلبية عشوائية مخيفة حتي لو وصفت بأنها الفوضي الخلاقة أو الفوضي المنظمة أو أي أوصاف أخري! الفوضي مرفوضة بجميع أشكالها وأي ما كانت مبرراتها، ولا يعقل، وأنا هنا اتكلم عن حياة سياسية وأحزاب ومعارضة ونخب ومثقفين وأناس مخلصين للوطن محبين له، ولا يعقل أن نستغل غضب الناس من حياتهم، وهو غضب مشروع ومبرر، لا يمكن أن نستغل ذلك الغضب للتلاعب بالناس وخداعهم وإيهامهم بأن التغيير في ذاته، بصرف النظر عن التفاصيل، هدف عظيم يا ليتنا نصل إليه! فالتغيير العبثي العشوائي مع رفضي لكثير مما نعيشه، قد يسفر عن كوارث ومصائب للوطن وللناس وللمجتمع، التغيير ليس هدفا في ذاته، التغيير للأفضل هو الهدف، وعلي كل منا أن يحدد الأفضل من وجهة نظره، ويعتبر ذلك معيارا مهما لرفض أو قبول كل ما يحدث وكل ما يقال، وواجب الأحزاب السياسية والمعارضة والنخب والمثقفين وقت تطرح شعار التغيير أن تخبر جمهورها وأبناء الوطن بمنتهي الأمانة والصراحة والشجاعة بشكل التغيير الذي تنشده وطبيعته وشكل المجتمع الذي تسعي إليه نتيجة لهذا التغيير، فنحن لسنا بنعاج تقاد في طريق مجهول يلوح لنا بالجزرة، وأعواد البرسيم والجرس المدوي فنجري وراءها بمنتهي الحماس فنصل للكارثة التي زين إلينا الطريق إليها باعتباره منتهي الأمل والمني والوطنية والثورية!! والتغيير للأفضل يستحيل أن ينبت في أرض الفوضي والعشوائية والعبث!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق