بقلم عبد الله كمال .. موقع " الراي " ..
يكاد الصراع السياسي في مصر يقترب مجددًا من حالته التقليدية الأولى، بعد أن شهد تغييرين طارئين خلال السنوات الثلاث الماضية. إذا ما اكتملت تلك العودة فإن عملية «تطوير مصر» سوف تتعثر، حتى لو كان الرئيس القادم «صاحب قدرات خارقة». يقتضي هذا «إعادة توصيف المشكلة»، وابتداع «تعريف جديد» للتنافس وليس الصراع.
«الحالة التقليدية» الأولى للصراع السياسي تعود إلى نشوء العصر الحالي للدولة منذ يوليو 1952، وتحديدًا بعد أزمة 1954. إذ تبلورت التفاعلات في مصر على أنها حالة تجاذب دائمة بين ثلاثة أضلاع في «مثلث». يتحالف فيه غالبًا ضلعان ضد الضلع الثالث، وفي بعض الأحيان يتداخل في الصراع «ضلع رابع» يمثل ضغوط القوى الخارجية التي ترجح هذا على حساب ذاك.
«الضلع الأول» يمثل الجيش، ركيزة فريق الدولة، والحكم، وهو يعبر عن مشروع «تقليدي»، يؤمن بالإصلاح وفق محددات صارمة، تعوزها المرونة.
«الضلع الثاني» تجسده القوى الديموقراطية والتيارات الليبرالية، التي تتبنى مشروعًا إصلاحيًا له مواصفات تحديثية، تعاني دومًا من كونها تفتقد إلى الانسجام مع قيم المجتمع وتقاليده العريقة، والاصطدام بين رومانسيته وتعقيدات الواقع.
«الضلع الثالث» تعبر عنه قوى المشروع السياسي الديني التي تطرح بديلاً يصارع هوية المجتمع ويريد تبديلها، وتحويل مصر إلى وحدة من مكونات «مشروع امبراطوري» للخلافة الإسلامية.
لنحو ستين عامًا، وانطلاقًا من كونه يحتكر «طاقة تحريك السياسة» كان «الضلع الأول» قادرًا على أن يبدل تحالفاته، بحيث يستخدم أيًا من الضلعين الثاني والثالث ضد بعضهما البعض. في لحظة تاريخية استطاع الأخير أن أن يبتكر تحالفًا استثنائيًا، ما أدى إلى إحداث «25 يناير»، وبالتالي تعرض الضلع الأول لاهتزاز وجودي كبير.
لقد استمر تحالف الضلعين «الثاني» و«الثالث» رغم التناقضات العميقة بين المشروعين، اللذين يمثلاهما، إلى أن استولت جماعة الإخوان على حكم مصر، مرة بالأغلبية البرلمانية في نهاية 2011، ثم اكتمل هذا بوصول محمد مرسي إلى كرسي الرئاسة كأول رئيس إخواني يحكم مصر.
من ثم أبعد الإخوان قوى «الضلع الثاني»، فوجدت نفسها مضطرة إلى أن تتحالف مع قوى «الضلع الأول» لكي تنهي «عملية احتكار إخوانية» للسلطة توقع لها الكثيرون إذا ما نجحت أن تستمر عقودًا، وأن تنفي وجود أي من الضلعين «الأول» و»الثاني» معًا.
في 30 يونيو، احتشدت القوى التقليدية خلف «فريق الدولة»، وفي القلب منه مؤسسات تليدة، مثل الجيش والشرطة والمخابرات. ونشأ بينها وبين «الضلع الثاني» تحالف أدى إلى إسقاط حكم الإخوان في الذكرى الأولى لتولي مرسي.
سرعان ما تبين أن هذا التحالف كان «هشًا»، قام على أسس «التكتيك السياسي» أكثر من كونه كان يقوم على مشروع مشترك تم دراسة أبعاده. بمعنى أوضح اجتمع «الأول» و«الثاني» على رفض المشروع الديني للحكم، ومسعاه لتغيير الهوية وإصراره على «أخونة الدولة». لكن كليهما لم يكن جاهزًا ببديل مشترك أو منفرد يطرحه على المجتمع ويلبي به الاحتياجات التي أظهرتها متغيرات «25 يناير» وما بعدها.
عمليًا لم يكن لدى أي من الضلعين «الأول» و«الثاني» أي خيارات بديلة سوى الذهاب إلى هذا التحالف، ذلك أن الحركة الشعبية العامة كانت مندفعة بقناعة كاملة في اتجاه رفض «المشروع الإخواني» ولو لم تتصد الدولة ومؤسساتها لقيادة حركة المجتمع لكان قد انفرط العقد وانفجرت الحرب الأهلية. في هذه البيئة كان أن وجدت القوى الديموقراطية أنه سيكون مفيدًا لها أن تنضوي تحت سماء تلك الحركة فورًا، بل والتحفيز في ذلك الاتجاه.
الخيار الذي لم تلجأ إليه القوى الديموقراطية، أي مشاهدة المجريات دون مشاركة منها في «30 يونيو» كان سيضع على كاهلها عبئًا متضاعفًا. الأول هو أن تتحمل جريرة مساعدتها للإخوان في الوصول للحكم، والثاني امتناعها عن المشاركة في إبعادهم عن الحكم بناء على رغبة شعبية عامة.
لكن هذا «التحالف الهش» ظل هشًا، وربما تفكك لأكثر من سبب:
* طبيعة التركيبة الاجتماعية التي ساندت «قوى الدولة» في 30 يونيو كانت أعرض من استيعاب «القوى الديموقراطية»، وهي في مجملها تساند نمط حكم خرجت ضدة قوى «الضلع الثاني» في «25 يناير»، وكان الخروج المشترك في «30 يونيو» يمثل تناقضًا مصلحيًا وأيديولوجيًا واجتماعيًا.
* في القلب من تحالف «30 يونيو» كانت المؤسسة العسكرية، وليس من المعتاد في قاموس القوى الديموقراطية أن تقبل بتحالف معها، خصوصًا إذا كان تحرك المؤسسة قد قوبل بضغوط دولية حادة، وميل إلى توصيف تحركها باعتباره «انقلابًا».
* ميل القوى الديموقراطية إلى أن تراعي الاستشهادات الدولية والتصريحات الخارجية، وإصرارها على التواصل مع العواصم الخارجية التي تتبنى معايير محددة لنسق الديموقراطية وقيم حقوق الإنسان.
* فشل القوى الديموقراطية في أن تحدث فصمًا في العلاقة بين «قوى الدولة» والظهير الاجتماعي التقليدي، لصالح نفسها، وقد حاولت مرارًا - خلال الأشهر التالية لـ 30» يونيو- إقناع «الجيش» بإمكانية اعتبارها ظهيرًا اجتماعيًا وسياسيًا مساندًا له، إلا أن هذا كان «تمنيًا» خالف طبيعة الأمور.
من اللحظة الأولى، وبينما «الإخوان» يكابدون ويل الخسائر السياسية التاريخية، حاولت الجماعة دق الأسفين بين الضلعين «الأول» و»الثاني»، واستخدمت في ذلك جميع الأساليب العاطفية والتكتيكية والإعلامية، وابتزت مشاعريا قوى «الضلع الثاني» بالقول أنها «خانت» «25 يناير». هذا لم ينجح، وإن كانت تولدت له فرص في الأسابيع الأخيرة، خصوصًا بعد أن خسرت قوى «الضلع الثاني» الحكومة التي اعتبرت أنها تمثلها، بإقالة حازم الببلاوي وتعيين إبراهيم محلب رئيسًا للوزراء.
الصورة الآن، وبعد تفاعلات عديدة خلال تسعة أشهر من المرحلة الانتقالية بعد «30 يونيو»، كما يلي:
* «الضلع الأول»، يستعد لفترة تاريخية جديدة من الحكم، متمثلة في ترشح المشير عبدالفتاح السيسي لرئاسة الجمهورية. مع تجديدات معلنة بشأن قطيعته مع رموز حكم مبارك بدون أن يكشف حتى الآن عن تناقض شامل مع المنظومة التي سادت مصر خلال الستين عاما الماضية.
بمعنى آخر، سوف يكون هناك قدر من التطوير لدولة 1952 ولكن مع الحفاظ على ثوابت الأمن القومي التي آمنت بها، وإمكانية القبول بمشاركة القوى الديموقراطية بشرط ألا تخالف تلك الثوابت.
* «الضلع الثاني»، يشعر بقدر هائل من الحيرة، وربما الارتباك، إذ إنه لم يتحصل على فوز سياسي كامل، ولا يضمن مستقبله في تركيبة الحكم، في ضوء ميول انتخابية عامة لا تعطيه إمكانية تسجيل مواقع مؤثرة في البرلمان القادم، فضلا عن انعدام فرصه في الانتخابات الرئاسية.
* «الضلع الثالث»، الذي خرج من الساحة السياسية، ولم يعد موجودًا إلا من خلال الاحتجاجات العنيفة والأعمال الإرهابية، يكرر محاولة أن يستقطب الضلع الثاني، وأن يعيد التحالف معه بأي صورة، أو على أقل تقدير ضمان ألا يكون مشاركًا في المعادلة السياسية للحكم الذي يتم بناؤه الآن.
أسوأ الاحتمالات، حتى وإن كان بعيدا، هو أن تندفع القوى الديموقراطية نحو حالة خصومة مع مؤسسات الدولة والحكم الجديد، بما يؤدي إلى جعلها بصورة غير مباشرة رديفا غير معلن لقوى «الضلع الثالث» صاحب المشروع الديني، وهو ما يعيد الأمور بشكل ما إلى ماكانت عليه قبل «25 يناير»، ويحقق عمليًا خسائر لما يمكن وصفه بأنه «معسكر الدولة المدنية».
لقد ثبت خلال 2012 و2013، وقبل بلوغ «٣٠ يونيو»، أن الخطر الحقيقي الذي يواجه الدولة المصرية، وبما في ذلك ثباتها الجغرافي، هو «المشروع السياسي الديني» الذي كشف عن خصومة أكيده مع قيم الديموقراطية، ومع معايير الأمن القومي المصري، وأكد أنه لا يمانع في أن يذهب بعيدًا من أجل تحقيق أهدافه الأيديولوجية ولو رعى الإرهاب وساند الإرهابيين.
وبخلاف الملاحقة الأمنية والقانونية التي تقوم بها «مؤسسات الدولة المصرية» للمشروع السياسي الديني، وفي القلب منه جماعة الإخوان، فإن مستقبل مصر يظل في حاجة إلى إعادة تعريف مشكلتها السياسية والاجتماعية، وفقًا للمحددات التالية:
1 - مهما كانت طبيعة الاختلافات بين قوى الضلعين «الأول» و»الثاني»، فإن كليهما يمثل الرصيد الحقيقي الداعم لمشروع «الدولة المدنية».
2 - أنه لا يمكن لأي من القوتين أن ينفرد دون غيره بالساحة، في ضوء أن «الضلع الأول» حصل على طاقة سياسية إضافيه خلال «30 يونيو»، في حين كان «الضلع الثاني» قد حصل على طاقة دفعت به إلى السطح السياسي خلال «25 يناير».
3 - أن الدستور المصري الجديد بنى شرعية الحكم التالي بإقراره بكل من «25 يناير» و»30 يونيو».
4 - أن التفاعل بين القوتين لا يقتضي الوصول إلى مرتبة «التحالف»، وأن تلك لحظة تاريخية لبناء صيغة تميزية بين اتجاهين رئيسين متنافسين لامتصارعين، يؤمنان بقواعد أساسية للدولة المصرية الموحدة.
5- أن هذا التفاعل يقتضي رضوخًا من «القوى التقليدية» لمتغيرات التجديد والحداثة، في ذات الوقت الذي يتطلب فيه من القوى الديموقراطية والليبرالية أن تكسب مشروعها السياسي المرجعية المحلية.
وتكشف النقطة الأخيرة أهم أبعاد الاختلاف بين قوى «الضلع الأول» وقوى «الضلع الثاني». ذلك أن «التقليديين» المؤيدين لمشروع دولة 1952 لا يخاصمون الديموقراطية لكنهم لا يعطون قيمها الأولوية الأهم مقابل مراعاة أساسية لمصالح الدولة المصرية. كما أن الديموقراطيين يخطئون دائمًا حين يجعلون مشروعهم السياسي يبدو كما لو أنه يتمتع بغطاء خارجي ومستند إلى عواصم غير القاهرة.
سوف تقترب المسافات كثيرًا حين يتقبل الطرفان حقيقة تقول: التقليديون ليسوا خصومًا للديموقراطية والتجديد، والديموقراطيون ليسوا خصومًا للوطنية والدولة المصرية.
http://www.alraimedia.com/Articles.aspx?id=489885
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق