لهذه الأسباب كرهت «25 يناير»
محمود الكردوسي
كنت عاشقاً، مصدقاً، مخدوعاً ككثيرين غيرى. كنت أنتظر هذا اليوم كأننى أنتظر بعثاً جديداً، وهأنذا أفيق من غفلتى وقد انقضى ثلاثة أعوام بالتمام والكمال، فلا أرى فيما جرى «ثورة»، وأتعجب كثيراً ممن يصرون على أن «25 يناير» كان «ثورة».. على الرغم من أنهم يدركون جيداً أنها «لا كانت.. ولا عاشت».
لن أخجل من مراجعة موقفى، ولن أتوقف عن تأمل وقراءة ما جرى فى ذلك اليوم: إن لم يكن بحساب المقدمات والنتائج، فبالعند فى مرتزقة «25 يناير» ودراويشها.. هؤلاء الذين سقطت حججهم وانكشف زيف ادعاءاتهم ويقبع بعضهم الآن فى عتمة السجن بتهم تتراوح بين البلطجة والعمالة. هؤلاء الذين لا همّ لهم الآن سوى إجهاض مكتسبات «ثورة 30 يونيو» وتصيد أخطائها وتعطيل خططها والتطاول على هيبة الدولة التى تبشر بها.
لن تردعنى مخاوف بعض العقلاء وتحذيرهم من افتعال مواجهة بين «25 يناير» و«30 يونيو»، ولن أستجيب لموضوعية ترى أن كلاً منهما «ثورة»، أو «موجتين» لثورة واحدة، ولن أسمح لنفسى بتسمية ما جرى فى 25 يناير «ثورة».. حتى إذا نزل به نص من السماء. قل «هوجة».. من «هاج» و«يهيج» فهو «هائج»، أى مندفع كالقطيع وراء شهوة الانتقام من نظام حكم فاسد وظالم وقمعى. قل «نكسة».. واحسب نتائجها بعد ثلاثة أعوام قياساً إلى نتائج نكسة 67، وزد على ذلك -وقلبك مطمئن- أن ما جرى فى «30 يونيو» كان أشبه بانتصار 73. قل «سبوبة».. والتمس العذر لطابور طويل من المرتزقة، لا فرق فيه بين إخوان وليبراليين وقوميين واشتراكيين ثوريين و6 أبريل، بل وعسكريين من مجلس طنطاوى: كل هؤلاء -وآخرون غيرهم أقل أهمية- مدينون لـ«25 يناير» بوجودهم وبقائهم حتى بعد أن فقدوا مصداقيتهم وأصبحت ذممهم السياسية والمادية محل شك. كلهم تعاملوا، وما زالوا يتعاملون مع هذا الـ«25 يناير»، كما لو كان بقرتهم المقدسة، أو دجاجتهم التى تبيض لهم ذهباً. كلهم يعتبرون «25 يناير» مهنة أو وظيفة يتقوتون منها، وينفقون من عوائدها على نجوميتهم، وأوهامهم وأفكارهم المريضة. قل انتفاضة.. من باب التأدب واحتراماً لمشاعر شرفاء خُدعوا وسُرقوا وخفتت حججهم وتحولت «ثورتهم المباركة» إلى ذكرى باهتة، تثير فى نفوسهم من الحسرة والأسى و(العناد أحياناً) أكثر مما تثير من الزهو. وحتى بعد انخراطهم فى ثورة «30 يونيو» وإيمانهم بأنها ثورة مصر الحقيقية.. ظل «25 يناير» يوم قيامتهم الذى لا يُنسى، ولم يتخلوا يوماً عن اعتقادهم -المبالغ فيه دون شك- بأنهم هم الذين أسقطوا نظاماً فاسداً وظالماً وقمعياً، وبأنهم أيضاً مهّدوا لإسقاط نظام الإخوان الفاشى، الخائن، ومن ثم فهم حلقة وصل بين «ثورتين»!
لا أعرف كيف لشعب أن يقوم بثورتين فى أقل من ثلاثة أعوام.. وهو الشعب نفسه الذى قام بثورتين فى حوالى تسعين عاماً، واحتاج إلى ثلث قرن تقريباً ليصحح ثورته فى 1919 بانقلاب عسكرى -سرعان ما تحول إلى ثورة- فى 1952؟!. وإذا كان التاريخ قد حكم على 1919 و1952 بأن كلاً منهما «ثورة» بفضل ما حققتا من مكاسب وإنجازات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية لا تخطئها عين، وبصرف النظر عن المصير البائس الذى آلتا إليه.. فكيف نسمى «25 يناير» ثورة، وهو الذى لم يكد يتمخض عن إنجاز واحد حقيقى، بل إن المصريين أحسوا أن بلدهم يُباع ويُنتهك، وأنهم ولّوا عليهم جماعة فاشية خائنة، تعيد إنتاج نظام حكم «ثاروا» عليه، وظنوا أنهم تخلصوا منه، فإذا بهم يترحمون على فساده وقمعه.. بينما يقبع كل رموزه فى السجن بتهم غير مثبتة. باختصار: إذا كان «25 يناير» ثورة.. فماذا يكون «30 يونيو» إذن، والفارق بينهما -كما قلت- كالفارق بين ما جرى فى 5 يونيو 1967 و6 أكتوبر 1973؟.
نعم.. أكره «25 يناير» بقدر ما أنتمى وأفتخر بانتمائى إلى «30 يونيو»، لأن الفارق بينهما ليس فى التسمية فقط، بل فى المقدمات والنتائج أيضاً. وإذا كانت نتائج «25 يناير» قد بدأت تتضح بعد أقل من شهرين، وتحديداً منذ استفتاء «طارق 19 مارس البشرى»، فإن مقدمات هذا اليوم المشئوم لم تتضح إلا بعد إسقاط حكم الإخوان.. وهو الإنجاز الأهم لثورة «30 يونيو»، وأسوأ ما تمخض عنه «25 يناير».
المقدمات تقول إن ما جرى فى ذلك اليوم كان جزءاً من مؤامرة كونية سميت «ثورات الربيع العربى»، وإن سيناريو هذه المؤامرة كان واحداً، بل يكاد يكون متطابقاً فى كل الدول التى كانت ولا تزال مسرحاً لها: تونس ومصر وليبيا واليمن، وقبلها كان السودان والعراق. المقدمات تقول -وهذا لم يعد خافياً على أحد- إن جذر هذه المؤامرة ممتد فيما سمى «مشروع الشرق الأوسط الكبير»، وهو مشروع أمريكى - صهيونى، يهدف بالأساس إلى تفكيك الدولة الوطنية وتحويلها إلى دويلات ونطاقات عرقية أو مذهبية أو جغرافية. المقدمات تقول إن أجهزة مخابرات إقليمية ودولية، ومراكز أبحاث، وجماعات ضغط، ومؤسسات إعلام ورأى عام، وورش للتدريب على أعمال الشغب والفوضى.. شاركت فى كتابة سيناريو هذه المؤامرة وأشرفت على تنفيذه، وإن ثمة مصدرين للتمويل هما غاز قطر وأموال تنظيم الإخوان الدولى. المقدمات تقول إن «جزيرة» هذا السافل الوضيع الذى يسمى «حمد بن جاسم» هى التى سمّت ما جرى فى 25 يناير «ثورة الشعب المصرى»، حتى قبل أن يتوافق هذا الشعب على هدف أو مطلب، وقبل أن يعرف بالطبع حقيقة أولئك الذين رفعوا شعار «عيش.. حرية.. عدالة.. كرامة إنسانية». المقدمات تقول إن مصر كانت فى حاجة إلى «هزيمة» جديدة لتعرف من الذى يخونها ويتآمر عليها ويتاجر بعرضها ودينها ومستقبلها، وهذا أفضل ما يمكن أن يقال فى «25 يناير».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق