كتبت في ١٧ فبراير الماضي مقالاً بعنوان: «حكم الغرباء».. بالطبع كان توصيفًا لحكم «الإخوان»، وفي الأيام الأخيرة كان أن دونت في شبكات التواصل الاجتماعي عبارات اعتبرتها نصحًا للجماعة قلت فيها: «إن على الإخوان أن يستشعروا خطرًا كبيرًا من شيوع صورة ذهنية لهم لدى المصريين تعتبرهم احتلالاً يستوجب تحريرًا»، لكن الإخوان للأسف يصرون على ألا ينتبهوا.. ويمضون إلى مصيرهم التاريخي.
إن أحاديث الناس، وتفاعلات الشارع، وما يتداوله الكثيرون في كل مكان يثبت أن الأمر تخطى مرحلة كونه حكمًا يواجه غضبًا، أو سلطة تعاني من احتجاجات عارمة، لقد وصلنا الآن إلى نقطة الدعاء بالإزاحة باعتبار الحكم «غُمة»، ورفع شعار «غور»، الذي يتجاوز «ارحل» بكثير، وترديد معنى: «أنا مصري وأنت إخوان».
لا أحد يؤيد العنف، أو يثني عليه، وبالتأكيد أنا ضد العنف، وأتمنى ألا تنجرف إليه مصر، لكن هذا لا ينفي توقعه من جانبي ككاتب سياسي.. وشيوع المعاني المشار إليها بين الناس يقول ببساطة ودون الاحتياج إلى تحليل متعمق أن مصر مقبلة على عنف .. وأن الاحتجاج قد لايكون كله سلمياً.. ليس لأن المصري يريد ذلك ..ولكن لأن الإخوان دعوه إلى هذا ..مرة بتكبرهم عليه وتعاليهم فوق قيمه ورفضهم مطالبه.. ومرة لأنهم هددوه بالدم وتحدوا إرادته.
ثلاثة أسباب لا يمكن للإخوان فهم طبيعتها وهم يقرأون المشهد، بينما يعتقدون أنه يمكن لهم إلجام شعب من ٩٠ مليون نسمة، وتهديده، وتوعده بالعقاب إذا لم يرضخ، أسباب تقود ضمن ما تقود غيرها إلى المشهد الذي بدأ في مصر وينتظر ذروته في يوم ٣٠ يونيه، أسباب تنطبق عليها عبارة «زرع.. حصد».
أولاً: استحضر الجميع الشارع دون أن يدركوا خطورة ذلك، كل القوى قالت إنها تريد أن تحتكم للشارع بدون أن تتيح لهذا الشارع وسيلة متزنة وعادلة لكي يُعبر عن حكمه.
قال الإخوان إنهم وصلوا إلى الحكم بالصندوق، متجاهلين حقيقة أن كل المصريين يعرفون كيف وصلوا إلى ما أعلنه هذا الصندوق، والولايات المتحدة قالت إنها تحترم الصندوق، وقال الجيش إنه لن يتحرك إلا إذا أراده الشارع، ودعا وزير الدفاع المصريين أن يذهبوا إلى الصندوق.. وقالت المعارضة المدنية إنها تثق في تأييد الشارع، وقال السلفيون إنهم يريدون الشارع عبر الصندوق، وقال أحمد شفيق إن الصندوق أظهر نتيجة مزيفة.. وحين جمع المصريون توقيعات «تمرد» قال الإخوان «من أنتم».. نحن نحكم بالصناديق.
إذن الجميع أدعي أن الشارع معه، كما أن الجميع طلب هذا الشارع، المؤيد والمعارض والمراقب، ولكن الشارع ليست لديه ثقة في أن يكون صندوق في حوزة الإخوان معبرًا عنه، وحين قال الشارع للجيش خذ قرارك.. قال الجيش بطريقة غير مباشرة إنه لا يمكنه أن يعبر عن موقف بدون قول صريح من الشعب .. وبالتالي قرر الشارع أن يقول كلمته التي يمكن توقع أن أغلب من طالبوا بها وأرادوا ان يعرفوها يفرون منها الآن .. لأنها سوف تضع عليهم مسؤوليات مهولة لا يطيقونها.
مشكلة أن يتحرك الشارع ليقول رأيه الصريح في وضع مثل الذي نحن فيه هو أنه لا يوجد من يمكنه أن يسيطر عليه، الكل قرر أن يحرر «الجني» من القمقم .. استدعاءً أو تحديًا أو تحفيزًا.. دون أن يدري أن عودة هذا «الجني» إلى القمقم ليست بالأمر اليسير على الإطلاق.
الإخوان من جانبهم، وبعد كل الفشل المذري الذي قدموه للمصريين، لم ينتبهوا إلى خطورة الموقف، وراحوا يعبثون مع المصريين، ويخرجون لهم - بالتعبير البلدي- لسانًا في الصالة المغطاة.. يقولون للناس هذا هو الشارع الذي نراه.. ومن ثم لم يتحسبوا أن الشعب لن يرى اللسان خارج الفاه ثم يسكت.
ماجرى في طنطا، والمنصورة، وكفر الشيخ، والفيوم، وأوسيم، ومن قبل ذلك في «القطاوية»، ليس سوى تمهيد لمقولات الشارع.. المصريون يحذرون.. والبدايات ليست سوى مقدمات.. وهذا الشحن المهول من كل الأطراف سوف تكون له عواقبه بالتأكيد.. خصوصًا أن عملية التسخين المتبادل مستمرة منذ شهرين على الأقل، ولها جذور منذ فترة طويلة.. وليس ذلك سوي تحليل لواقع من وجهة نظري.
ثانيًا: يصر الإخوان على ترسيخ ابتعادهم عن المصريين باعتبارهم «غرباء».. وقد تجلت مظاهر هذا في كل شيء، بدأوا بالإقصاء والأخونة.. بدلاً من أن يؤكدوا مصرية مصر كان أن أعلنوا «الأخونة» ولما ووجهوا بها لم ينكروها ودافعوا عنها.. غير مدركين أن هناك فرقًا شاسعًا بين أن تضع مؤيديك ومسانديك في مناصب الحكم وبين أن تفرض على الناس تغييرًا قسريًا لصفاتهم.
فّهم المصريون «الأخونة» بمنظورها الثقافي والتاريخي والحضاري عمومًا، وليس باعتبارها استحواذًا سياسيًا، ووجدوا فيها نقيضًا للمصرية.. شعور لم يساورهم حتى في عصر الاحتلال الإنجليزي، الذي لم يحاول أن يفرض على مصر طيلة سبعين عامًا ثقافة أخرى.. وكلما أصر الإخوان على أن يرسخوا «الأخونة» كان أن استنفروا من داخل كل مصري مقاومة مذهلة لم يستدعها هذا الشعب منذ عقود بعيدة.
المشكلة لم تكن في أسماء الشخصيات التي استقدمها الإخوان لكي يضعوها في مواقع كثيرة، وإنما في الدلالات التي يجسدها كل منهم.. لم يهتم مصري من قبل بمن هو محافظ الأقصر، ولكنه لابد أن يوقظ كل أجراس الانتباه في مكنونه حين يكون المحافظ من فئة متطرفة لا تؤمن أصلاً بوجود الآثار وتعتبرها أصنامًا، ولم ينشغل مصري من قبل بمدى انتشار فن الباليه، بل على العكس كانت الغالبية تراه فنًا غير قادر على الانتشار في البيئة المصرية، لكن اعتبار من تمارسه داعرة وعاهرة ومخالفة للدين هو أمر استفز المصري الذي لم ير في حياته عرضًا للباليه.. والذي لا يعرف الفرق بين بحيرة البجع وبحيرة قارون.
والأخطر أنه تبين للمصريين يومًا تلو آخر أن «الأخونة» نقيض التعايش، وأنها تعني أن تتسع الهوة بين المصري المسلم وجاره القبطي، وأن هذا الحكم سوف يدفع مصر إلى تقسيم نفسي إن لم يكن يلهث بها نحو تقسيم جغرافي.. وربما كان أسوأ شعور هو أن تكتشف أنه في ظل هذا المناخ سوف تشعر بالفقدان حين تصحو يومًا ولا تجد صديقك القبطي في البلد لأنه فر مهاجرًا أو محبطًا، لقد كانت هناك دومًا فتنة طائفية، تتعدد معاركها، ومظاهرها، ولكن المصري لم يصل أبدًا إلى مناخ أدرك منه أن هناك خطرًا حقيقيًا على وجوده المشترك منذ تاريخ بعيد كما هو يحدث الآن.
والأهم أن «الأخونة» في أحد أهم نتائجها ومظاهرها وصلت بالمصري لمرحلة عدم احترامه لما حوله، وضيقه من نفسه، لأنه قد بلغ به الحال أن يجد من يديرون أمره لا يليقون به وبتصوره عن القيادة المقبولة منه نفسيًا.. صدموه الإخوان بكل نموذج يطرحونه عليه يوميًا.. إذا ما نظرت إلى مجموعة صور وهيئات الأسماء سوف تدرك المعنى الحقيقي لهذا الشعور العام.
ثالثًاً: انهارت السلطة داخل المصري، لم يعد يحترمها، أو يخشاها، أو يهابها، أو يضع لها اعتبارًا.. وهذه مرحلة لا يمكن معها أن تُجدي أي وسيلة أو محاولة لفرض القوة.
ذلك أن لأي سلطة مقومًا أساسيًا وهو «القبول النفسي» بها، سواء كانت شرعية أو غير ذلك، ديموقراطية أو طغيانًا، مدنية أو دينية، غريبة أو وطنية.. هذا «القبول النفسي».. الذي لا يشترط ان يكون إيجابياً، بل يمكن أن يكون سلبياً، والذي به يرضخ المواطن صاغرًا لمعنى السلطة وقرارها.. حين ينهار لا تستعيده ولا تُجدي معه جيوشًا وشرطة أو ميلشيات وجماعات مسلحة تهدده.
وفي الطريق إلى هذا الرفض النفسي للسلطة داخل المصريين كانت هناك عشرات من المظاهر التي تلتقي بدورها مع مظاهر السبب الثاني.. منها مثلاً أن يكتشف المصري أن سلطته يمكن أن تتنازل عن أرضه ولا تجد في ذلك أي مانع.. ومنها أن يتبين له أنه ليس لديها مانع في أن تستعين بالغريب لكي تفرض سطوتها.. ومنها أن يتأكد من أنها ضد مصالحه التاريخية مثل علاقاته مع دول الخليج.
المصري يمكن أن يقبل توقيع اتفاق سلام مع إسرائيل، ويعتبر ذلك حلاً لصراع ممتد، ويثور جدل طويل حول هذا، لكن لا يمكنه أن يقبل من السلطة أن تخاصم الخليج.. حيث أكل عيش الملايين.. وإذا قبل من السلطة فشلاً في إدارة ملف حيوي فإنه لا يمكن أن يقبل منها أن تكون عاجزة.. يمكنها أن تكون متأخرة في متابعة ملف المياه.. لكن أن يتأكد المصري أنها لن تقوى أبدًا على استعادة زمام المبادرة فيه فإنه يفقد إيمانه النفسي بها ويبدأ في التعامل معها على أنها غير موجودة.. أو «غُمة» ومن ثم يرفع شعار «غور».
إذا ما راجعت مجموعة من المشاهد في الأيام الأخيرة سوف يتبين لماذا تجسدت تلك الأسباب وهذا الشعور العام، ومنها مشهد اجتماع الرئيس مع من كان يحاورهم بشأن ملف النيل، ومشهد الرئيس في الصالة المغطاة يهاجم الشعب الذي سيخرج محتجًا عليه في ٣٠ يونيه، ومشهد الفوضى المتعمدة في محكمة الإسماعيلية، حيث لا يريد الإخوان للحقيقة أن تظهر في هروب المساجين، ومشهد وصول قيادات حماس إلى مصر رغم أن أسماء بعضهم مدرجة على قوائم الممنوعين من الدخول، ومشهد القيادي الإخواني وهو يهاجم دولة خليجية، ومشهد الشيخ الحليف لمرسي وهو يدعو على شعبه في وجوده.. وغيرها كثير.
كل هذا يقود إلى ما نحن ذاهبون إليه.. فمن زرع حصد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق