كتب ياسر رزق في جريدة المصري اليوم
بتاريخ 20 اكتوبر 2012 .....
وماادراك مالجيش اذا غضب
يبدو المشير طنطاوى حزيناً، هكذا أتانى صوته عبر التليفون.
ويبدو الفريق سامى عنان عاتباً، كما سمعته وهو يحدثنى فى أكثر من مكالمة.
يبدو الجيش غاضباً.
قادته ناقمون. ضباطه ثائرون. أفراده فى حالة غليان.
يبدو وزير الدفاع الفريق أول عبدالفتاح السيسى مستاءً مما يسمع ويرى ويلمس.
ويبدو الرئيس محمد مرسى فى حيرة بين واجبات «القائد الأعلى»، وحسابات «رجل السياسة»، وانفلاتات «أعضاء الجماعة».
للإنصاف.. يكاد الرئيس فى الأيام الأخيرة يميل إلى النهوض بواجباته كـ«قائد أعلى»، ربما عارفاً أن رئيس الدولة المصرية لا يكون رئيساً بحق إلا حين يمسك بمفاتيح بابها المستغلق وهو القوات المسلحة، وربما مدركاً أن الضغط على المفاتيح بأكثر مما هو لازم قد يحطمها فى مواضعها، فلا يكون لبقاياها لزوم، ولا لمن يمسك بها سلطان.
لكن الميول لا تكفى ما لم تتحول إلى خطوات، والنوايا لا تجدى ما لم تُترجم إلى أفعال، والتصريحات لا تقنع ما لم تصبح مواقف.
فلا يصح أن يعطى الرئيس إشارة فى اتجاه ونجد ثمة من يغير الدفة إلى اتجاه معاكس!
■ ■ ■
حزن المشير له ما يبرره، وكذلك عتاب الفريق، فما يكون الاتهام بالقتل والفساد هو جزاء من تصدى للقتلة ولصوص الأوطان، ما هكذا تورد النوق!
للحزن والعتاب أسباب أخرى!
فالغريب أن تكون تهمة المشير طنطاوى تحديداً فى نظر البعض من دعاة الدولة المدنية، التى لا هى دينية ولا عسكرية، أنه أوفى بعهده للشعب، وسلم السلطة لمن اختارته الجماهير، وأن يكون قبوله والفريق سامى عنان قرار رئيس الجمهورية بإعفائهما من منصبيهما، وتنفيذهما القرار دون مقاومة أو عصيان، مدعاة للسخرية منهما، من جانب البعض الذين كانوا يهتفون حتى وقت قريب بسقوط حكم العسكر، وللمقارنة بين موقفهما وموقف المستشار عبدالمجيد محمود، النائب العام، فى الأزمة الأخيرة.
أعرف أن المشير طنطاوى بعد أيام من تركه منصبه سأل أحد معاونيه السابقين:
لماذا يا فلان لم يخرج الجيش إلى الشارع رافضاً إقصائى؟!
- رد القائد السابق: لأنك يا سيادة المشير استجبت للقرار ولم تأمره بالنزول.
.. ابتسم المشير وقال له: برافو عليك.. هذا هو السبب!
ومنذ أيام.. سألت الفريق سامى عنان:
لماذا استجبت والمشير طنطاوى لقرار الرئيس فى هدوء، ولم تقولا له مثلاً إنه لا يحق له إلغاء الإعلان الدستورى المكمل، ومن ثم لا يملك تغيير قيادة الجيش؟
- رد الفريق بهدوء: نحن نظرنا للمصلحة العليا للبلاد. تخيل ما الذى كان يمكن أن يحدث لو رفضنا القرار، وما الذى كان يمكن أن يحدث لو نزل الجيش إلى الشارع من جديد، نحن تربينا فى مؤسسة وطنية منضبطة، تضع مصلحة البلد فوق أى اعتبارات شخصية.
■ ■ ■
أما الغضب داخل المؤسسة العسكرية فهو نتاج أقوال وأفعال تراكمت، وأدت برجال القوات المسلحة إلى الشعور بالغبن فى وقت كانوا ينتظرون فيه الإنصاف، وإلى الإحساس بأن الجيش صار مستباحاً لدى البعض، طعناً فى كفاءته القتالية وانتقاصاً من دوره فى حماية الثورة، وتجريحاً فى قادته السابقين، وتشكيكاً فى قادته الجدد!
لم يكن رجال الجيش يتوقعون شكراً على واجب حين حملوا بمفردهم هموم أمة وشعب طيلة 16 شهراً كاملة، فى وقت تناحرت فيه قوى سياسية بحثاً عن مصالح حزبية ضيقة، وتكالبت جماعات فئوية سعياً لحقوق أو مكتسبات مالية، ولم يكن رجال الجيش ينتظرون ثناء على أداء مهمة وطنية، هى إدارة انتخابات برلمانية ورئاسية نزيهة، ونقل الحكم بسلاسة ورضا إلى السلطة التى اختارها الشعب. لكنهم لم يتصوروا أبداً أن يكون المقابل هو الإساءة والإهانة من جانب بعض المحسوبين على النخبة السياسية واتهام الجيش الذى حمى الشعب بارتكاب أعمال قتل منظم ضد المتظاهرين، ثم محاولة اختراق القوات المسلحة لبذر الشقاق فى صفوفها عبر الشائعات الممنهجة ومساعى التغرير والاستقطاب من جانب جماعة بعينها.
غضب رجال الجيش حين أُقصيت قيادتهم السابقة بإخراج ردىء لا يليق بعطائها من أجل الوطن، لاسيما فى الفترة الانتقالية، وحين صور بعض المحسوبين على جماعة الإخوان الأمر على أنه انتصار لها فى مواجهة جيش ثورة يوليو، لكن رجاله آثروا الصمت، خاصة أن قيادتهم الجديدة مشهود لها بالإخلاص والكفاءة، وأن وزير الدفاع الجديد يعرفهم جيداً ويعرفونه ضابطاً يعتنق الوطنية المصرية انتماء، وأنه على غير ما أشاع أصحاب حملات التشويه أبعد ما يكون عن الانحياز فكراً لتيار بعينه ولجماعة الإخوان تحديداً.
لكن الغضب نما وتزايد فى الصدور حينما حلت أول ذكرى لانتصار أكتوبر بعد انتخاب الرئيس محمد مرسى.
فلأول مرة تُستبعد القوات المسلحة من تنظيم احتفالها بيومها المجيد، ويُسند التنظيم إلى الرئاسة ومعها وزارة الشباب الإخوانية، وبالتالى خلت مقصورة استاد القاهرة من أبطال حرب أكتوبر، ومن قادة القوات المسلحة السابقين الذين لم توجه لهم الدعوة، ليجد القائد العام للقوات المسلحة نفسه فى يوم عيده جالساً وسط قتلة الرئيس أنور السادات، بطل حرب أكتوبر، بينما رئيس الجمهورية الجديد يجوب مضمار الاستاد بسيارة مكشوفة يتلقى التحية والتهانى من أعضاء الجماعة الذين جِىء بهم من المحافظات ليملأوا المدرجات، وكأنه أتى من ميدان القتال لتوه بعد أن حقق النصر المظفر!
■ ■ ■
اشتد الغضب، وعربدت الشكوك فى النفوس تجاه النوايا، عندما دُعى وزير الدفاع إلى اجتماع فى رئاسة الجمهورية بدعوى مناقشة موضوع تأمين «مليونية الحساب» التى دعت إليها قوى يسارية وليبرالية الجمعة قبل الماضى، غير أن الاجتماع لم يناقش هذه القضية، وإنما كان موضوعه مؤامرة استبعاد النائب العام، واتضح أن الغرض هو محاولة الزج بالقوات المسلحة والاستقواء بالجيش فى معركة إخضاع القضاء، وذهبت الشكوك بعيداً إلى حد التساؤل عما إذا كان الغرض أيضاً محاولة توريط الجيش فى اعتداءات ميليشيات الإخوان على المتظاهرين فى تلك المليونية التى عُرفت باسم «جمعة الغدر»!
على أن الغضب اشتعل بين عشية وضحاها فى صفوف القوات المسلحة، فور نشر خبر مكذوب، أو لعله كان بالونة اختبار لتشويه صورة المشير طنطاوى والفريق عنان، وتهيئة الرأى العام لمحاكمتهما بادعاءات يعرف رجال الجيش أنها كاذبة.
كان ذلك فوق طاقة صبر الجيش، وكان تجاوزاً لخط أحمر مرسوم، ليس لأن المشير والفريق محصنان أو أنهما فوق القانون، لكن لأن رجال الجيش يدركون أن القصد من وراء ذلك هو إذلال القوات المسلحة وصولاً إلى إخضاع المؤسسة العسكرية، وإذعانها لهيمنة الجماعة.
أظن لهيب الغضب وصل إلى الرئيس محمد مرسى عبر الفريق أول عبدالفتاح السيسى، وأظن «السيسى» أبلغه أن الانفجار لو حدث فلن يكون أحد فى مأمن من شظاياه، ولعل البيان العسكرى الذى صدر لأول مرة باسم قادة وضباط وصف وجنود القوات المسلحة، معبراً عن استيائهم من الإساءة لقادتها السابقين، كان إشارة حمراء تدل على أن الكيل فاض.
وأحسب الرئيس مرسى كان حصيفاً وحكيماً حينما تصرف بحق كقائد أعلى، فاتصل بالمشير طنطاوى والفريق عنان، نافياً صحة ما نُشر عنهما، ومعبراً لهما عن تقديره، ثم سارع بإصدار تصريحه الرسمى الذى أكد فيه أنه لا أساس من الصحة لما نُشر، وأن قيادات القوات المسلحة السابقة والحالية موضع احترام الشعب ومحل اعتزاز الوطن لعطائها من أجل مصر.
وأحسب أيضاً زيارات الرئيس للجيشين الثالث والثانى وللمنطقة الغربية العسكرية وأحاديثه مع الرجال فى مواقعهم، قد امتصت بعضاً من شحنات الغضب المكبوتة.
مع ذلك.. مازال الجيش الذى يخاطب الرئيس مرسى بوصفه قائده الأعلى ينتظر منه خطوات وأفعالاً ومواقف تتسق مع العبارات الطيبة التى تُقال.
نحن فى بلد قلق.. فرغنا من صيف انتخابى ساخن، لندلف إلى خريف سياسى غاضب، ونبدو مقبلين على شتاء شعبى عاصف، لعل ذروة أنوائه تواكب الذكرى الثانية للثورة.. ويقينى أن أول ما لا يريده الشعب أن تهان مؤسسته العسكرية، وأول ما لا يرغبه الرئيس أن يغضب الجيش.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق