المعضلات المصريه الثلاث في الازمه السوريه -
بقلم :عبدالله كمال
المقال المنشور في موقع ميدل ايست اونلاين
اليوم بتاريخ ١٦ نوفمبر ٢٠١٢
إبان ادلاع الازمة المصرية في يناير 2011، كان أن إنضمت سوريا تحت حكم بشار الاسد إلى عملية "القصف السياسي" التي تعرض لها النظام المصري الحاكم وقتئذ، وشاركت في الهجوم عليه، متضامنة مع "رياح الثورة" التي دفعت رأس النظام المصري لترك حكمه في 11 فبراير 2011. ثم كان ان دارت الدائرة وتماهى بشار الاسد مع قاموس عبارات الرئيس الذي كان يهاجمه واستخدم حاكم سوريا "نصاً حرفياً" كان مبارك نفسه قد استخدمه في احد خطاباته خلال الازمة المصرية. قال بشار: "سوف اموت في سوريا". قال مبارك نافياً أنه سوف يكرر حالة زين العابدين بن علي الذي فر من تونس حين احكمت الثورة خناقها حوله: "سأعيش في بلدي وادفن فيه."
التماهي بين العبارتين لا ينفي إختلاف منطلقات الموقفين. لقد كان مبارك يؤمن بقبول حكم التاريخ، ويعتقد انه لن يتعرض من فئات في شعبه إلى ما واجه فيما بعد.. ويظن أن لديه رصيدا تاريخيا يمكن ان يدفع مواطنيه إلى غفران ما يرون انه اخطاء.. ويؤمن أن قائداً عسكرياً سابقاً له سجل بطولاته لا يمكن ان يترك بلده هارباً. على هذا الاساس بقي في مصر، رافضاً عروضا حقيقية بالمغادرة والاستضافة في دول اخرى، حتى بعد ان ترك حكمه. لكن بشار الاسد قال انه سوف يموت في سوريا لاسباب مختلفة تماما وإن كانت لها علاقة بما تعرض له مبارك فيما بعد. قال هذا لانه لا يريد ان يتعرض لما تعرض له رئيس مصر السابق من محاكمات وسجن. فاذا ما كان عليه ان يواجه مصيره الاخير فليواجهه في مكانه وعلى رأس حكمه.
اختار مبارك الا يكون ثمن بقائه هو هدم الدولة، وربما كان الذين أقنعوه بان يترك الحكم يريدون منه ان يدفع هو (مقابل بقاء النظام).. فاذا ما كان "الشعب يريد اسقاط النظام".. واذا كان هو بالنسبة للمعتصمين في ميدان التحرير "النظام نفسه".. فلتكن الاستجابة بان يغادر منصبه وتكون هذه التضحية محققة لمنفعة متعددة الابعاد، منها درء الفوضى، ووأد احتمالات حرب اهلية قد ينجرف اليها الجيش، وصمود الدولة بدلا من انهيارها.
لا يمكن القول بان ختام الازمة المصرية قد سبب تأثيراً على مسار المجريات الليبية التي انتهت بان قتل معمر القذافي، لكن المسار المصري قد أثر بالتأكيد على مجريات اليمن.. وادى إلى تصعيد عمليات العنف، والتظاهر المتقابل، الذي عبر عن انقسام المجتمع، وصولا إلى الصيغة الأخيرة التي وفرت خروجاً آمناً مطمئناً للرئيس السابق علي عبدالله صالح.. وهو درس جديد أضافه بشار الاسد إلى خياراته وأدرك أبعاده.. وتيقن من إختلاف اليمن عن سوريا.. فقرر الا يكون مصيره مشابها لمصير مبارك اذا ما ترك الحكم!
السيناريو المصري التالي لما بعد ترك مبارك لحكمه هو احد اهم المعضلات في الازمة السورية، اذ لو كان خياراً مطروحاً أن يتم توفير "خروج آمن للاسد" فان هذا الخيار لا يجد طريقه للتنفيذ.. ويفتقد - وفق مقاييس الاسد - لاحتمالات المصداقية.. في ضوء انة لا يريد أن يحاكم ويسجن أو يُعدم.. وأن في وجوده داخل قصره حماية له لفترة أطول من الوقت هو وعائلته ومصالحه. ولعل هذا الاستمرار يمكن ان يوفر، بمضي الوقت، فرصاً تتيح له بقاءً أطول أو خروج تتوافر له الضمانات المؤكدة التي تمنع ملاحقته الجنائية الدولية بعد ان ارتكب كل انواع جرائم الحرب المباشرة وغير المباشرة ضد شعبة الثائر.
في هذا السياق يمكن فهم الأبعاد التي يطرحها تصريح وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف الذي قال: "اذا كان هناك من يرى ان مصير بشار هو الامر المهم في هذه القضية فلابد ان تدركوا ان سفك الدماء سيستمر لان بشار الاسد قال انه يريد ان يبقي في بلاده ويموت في بلاده". والمعنى اننا قد وصلنا إلى مرحلة صار فيها الربط جذريا ما بين مصير الازمة ومصير بشار.. وما خلف بشار. وفي سبيل ذلك يمضي هذا الحكم القاتل نحو مزيد من العنف الطاغي.. يراهن بالدم على مصيره.. فاما أفلت من ثمن الدم ولاحت له فرصة ينتظرها من التعقيدات الدولية في التعامل مع الأزمة.. او دفع الجميع إلى القبول بـ"خياره النيروني" الذي لن ينجو من خسائره لا اعداءه ولا من يحالفونه لأسباب اقليمية ودولية.
هكذا كانت للسوابق المصرية معضلتها الاولى في الازمة السورية. سوابق لم تعف نفسها من توفير معضلة أخرى.. ثانية. ذلك انه بعد ان حصل الاخوان على حكم مصر، وتبدت إقليميا المساعي المتوالية للتوسع الاخواني السياسي (ما بعد مصر).. بحيث يتمكن ما يعرف باسم التنظيم الدولي للاخوان من السيطرة على الحكم في الدول التي ضربتها الثورات عربيا.. عبر الافرع المحلية المختلفة.. كان ان توالت التفاعلات في داخل كل دولة بحيث دفعت الولايات المتحدة، وربما دول الاتحاد الاوروبي، إلى اعادة التفكير في دعم هذا المشروع الاقليمي البديل.. انه كذلك احد الاسباب التي دفعت كل من الصين وروسيا إلى اتخاذ المواقف التي يتخذاها من الازمة السورية. وليس خافيا على احد ان دمشق قد تمكنت - بداية - من اقناع روسيا بانها تواجه حربا ذات ابعاد ايديولوجية اكثر مما تواجه ثورة ذات مطالب حقيقية.. وانها تخوض المواجهة مع سيناريو تديره الولايات المتحدة للتثوير في المنطقة واستبدال كل او اغلب انظمة الحكم بممثلي الاسلام السياسي.
والواقع انه تلوح عملية مراجعة نوعية، في واشنطن، لم تترسخ بعد، بشأن مستقبل انظمة الحكم العربية في النظم الجمهورية التي تعرضت للثورات والهبات الجماهيرية.. في ضوء التصرفات التي كشفت عنها طرق الاداء وممارسات ما يمكن وصفة بالنظم الاخوانية.. على صعيد امكانية ضمان الاستقرار المحلي.. والاستقرار الاقليمي.. وتحقيق المنفعة الجوهرية من القبول بالخيارات ذات البعد الديني، وهي تصور ان "الاسلام السياسي" يمثل بديلا ناجعا في مواجهة العنف الديني مختلف المشارب والذي يتصدره تنظيم القاعدة.
لقد تفجرت اسباب المراجعة حين اغتيل السفير الاميركي في ليبيا، اثناء الانتخابات الاميركية، ما مثل تحديا لادارة اوباما، هدد ولو مؤقتا امكانية اعادة انتخابه. وتزايد مبررات المراجعة مع تكرر ظواهر اثبتت ان المعادلة التي لجأت اليها الولايات المتحدة واسفرت عن القبول بالاخوان بديلا قد لا تحقق المصالح الاميركية المرجوة في المدى المنظور.
مصريا وتونسيا، ثبت ان الفرضية الاساسية غير قابلة للتحقق، وان وجود ما توصف بانها "تيارات الاسلام السياسي المعتدل" في الحكم ليس بالضرورة قادر على ان يسحب البساط من تحت اقدام جماعات اكثر تطرفا.. وان المزايدات السياسية بين "المعتدل والمتطرف والاكثر تطرفا والاشد تطرفا" تقود التيارات الحاكمة اما إلى توافقات لا تحقق التقدم او مزايدات تدفعها نحو ارضية من ينبغي عليها ان تسحب البساط منهم.. وبدلا من ان تجذبهم إلى مسارها المعلن تذهب هي إلى منهجهم الحاد.
وفي حين تضاعفت التحديات الامنية التي لا تضمن حدوث استقرار قريب، فان معدلات العنف الديني زادت، واخذت اشكالا اخلاقية مناقضة للقيم الديموقراطية، وهددت الاقليات خصوصا في مصر، وادت إلى تصعيد نوعي في سيناء، حيث لا يبدو ان هناك حسما قريبا يمكن ان يضمن تخميد الجماعات الدينية العنيفة او تلجيمها او احتوائها.. وتأكد بمضي الوقت ان تلك الجماعات هي التي تسيطر على دفة الفعل لا التيار الموسوم بانه "الاسلام السياسي المعتدل".
ومن ثم فان المراجعة المبدئية اميركيا اسفرت عن التصريح الشهير لوزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، والذي انتقدت فيه المجلس الوطني للمعارضة السورية الخاضع وقتها لسيطرة اخوانية، ما دفع إلى عملية لهاث سياسية انتجت تعديلا في تركيبة المجلس ونشوء الائتلاف الوطني للمعارضة بقيادة الشيخ معاذ الخطيب.
إن التعديلات التي جرت على نسق المعارضة السياسية السورية، لا يبدو انها قادرة حتى اللحظة على تلبية القلق الاميركي خصوصا والغربي عموما، من احتمالات اقصاء الاسلام السياسي في سوريا لغيره من التيارات السياسية في مرحلة ما بعد بشار.. من جانب.. كما انها من جانب آخر غير قادرة - هذه التعديلات - على ان تثبت جدارتها بامكانية السيطرة على القوى الموجودة داخل سوريا وتخوض "الحرب الثورية" ضد نظام بشار الان وفي مرحلة ما بعد بشار.
إن المعضلة الاولى تتقاطع مع موقف روسيا. والمعضلة الثانية تتقاطع مع مصالح الولايات المتحدة. وبخلاف الاثنتين هناك معضلة مصرية ثالثة تتقاطع مع ايران. وكلها اطراف ذات ادوار معروفة في الازمة السورية.. لكن التقاطع في المعضلة الثالثة له ابعاد مختلفة.
ذلك ان وصول الاخوان إلى الحكم في مصر، ادى إلى تعديل في اوراق الترتيبات الاقليمية فيما يخص المشكلة الفلسطينية.. وفي حين ادت "الحرب الثورية" في سوريا إلى انفصام في العلاقة بين حركة حماس ودمشق.. ادت التغييرات في مصر إلى "تلاصق سياسي" يفوق مواصفات "التحالف" بين مصر وحماس. وكان لهذا تبعاته التي انعكست على سيناء نفسها.
أما وان الامر كذلك، فان اصابع اقليمية كان ان دفعت إلى تصعيد خطير في غزة، لاختبار مدى قدرة هذا "التلاصق" بين القاهرة وحماس على الصمود، وبهدف اصيل يقصد تسخين الحدود المصرية الاسرائيلية وتفجير غزة من جديد، بما يؤدي إلى تخفيف وطأة الضغط على سوريا.. وبالتزامن مع تصعيد اخف وطأة من الجولان تجاه اسرائيل لا تخفي فيه اصابع حزب الله. هذا لا ينفي بالطبع المسئولية التي تتحملها اسرائيل عن التعامل العنيف والدموي تجاه غزة، وبما ادى إلى تعرض الابرياء إلى ايذاء قاس وغاشم وآثم.
إن التلاصق ما بين حماس والقاهرة لا يعني ان هناك سيطرة كاملة للنفوذ المصري السياسي داخل غزة، ومن الواضح ان هناك اطراف اقليمية اخرى، ليست ايران بعيدة عنها، تملك القدرة على احداث التفجير القاصد إلى دفع اسرائيل لاتخاذ مواقف عنيفة.. لا نبرئها - اسرائيل - منها.. فهي صاحبة مصلحة حقيقية في الاستجابة المباشرة لمثل ذلك التصعيد.. ولو لم تتعرض لاي قصف صاروخي من جماعات غزة فانها كانت سوف تبحث عن مبررات اخرى.. من اجل استحضار ملف غزة قبيل الانتخابات الاسرائيلية المقبلة ولفرض صيغ جديدة تمثل تحديا لعواصم قريبة في ظل الاوضاع المستجدة.
لبعض الوقت لن يعود الهدوء إلى غزة، ما يعني لفت الانظار إلى الملف الفلسطيني بعيدا عن الازمة السورية.. ويلاحظ في هذا ان لافروف قال في الخليج قبل يومين: "الازمة السورية مهما كانت شدتها لا يجوز ان تطغى على اهمية المواضيع الأخرى وقبل كل شيء المشكلة الفلسطينية". ولاشك ان التصعيد في هذا الاتجاه سوف يمثل تسخينا إضافيا، يضع ورقة قديمة -جديدة على مائدة الملف السوري بصورة او اخرى.
المعضلة الثالثة تعيدنا مرة أخرى إلى المعضلة الثانية، اذ سيكون على القوى الاقليمية والولايات المتحدة ان تتبع رد الفعل الاخواني الصادر من مصر، وطريقة تعامل الحكم الجديد، مع هذه الازمة ومدى تأثيرها على العلاقات مع اسرائيل في ضوء اتفاقية السلام.. بحسبانها اختبار مبكر لشرط جوهري في معادلة القبول بالاسلام السياسي بديلا في انظمة الحكم.. والشرط هو: إلى اي مدى يمكن لجماعة الاخوان ان تلتزم بمعاهدة السلام وحفظ الامن الاقليمي وفق اتفاق 1979؟ من ثم فان هذا سيحدد مصير التعامل مع الخيار الاخواني اقليميا.. خصوصا في الازمة السورية.
عبدالله كمال
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق