إنه خبر منشور في كل الصحف ""الجمعية العمومية لمجلس الدولة ترفض تعيين القاضيات بمجلس الدولة بأغلبية ساحقة"" تصور البعض أن محكمة مجلس الدولة أصدرت حكمها ضد اشتغال النساء بالقضاء وتصور البعض أن ذلك الحكم سيخلع القاضيات الجالسات فوق المنصة حالياً ويحرمهن من الاشتغال بالقضاء ويعزلهن من وظائفهن واستعدت الفضائيات لمناقشة الأمر و"إيه رأيكم وده معناه إيه"!
والحقيقة أني استقبلت الخبر المنشور ورأي أعضاء الأغلبية الساحقة للجمعية العمومية لمجلس الدولة في حجمه الصحيح "الجمعية العمومية لمحكمة القضاء الإداري" ترفض تعيين القاضيات بالمحكمة هذا رأي الأغلبية وقرارها لكن الجمعية العمومية لمجلس الدولة لا تصنع قوانين بتعيين النساء في القضاء ولا عزلهن من فوق منصات القضاء، إن الخبر المنشور يكشف رأي الأغلبية الساحقة من الجمعية العمومية ومعني كلمة الأغلبية الساحقة أن هناك أقلية من أعضاء تلك الجمعية تناقضوا مع تلك الأغلبية وبمعني آخر إن تلك الأقلية من أعضاء الجمعية العامة لمجلس الدولة مع تعيين النساء قاضيات بالمجلس وهذا شيء عظيم في ذاته!!
بساط الريح
فحتي الأمس القريب كان تعيين النساء للاشتغال بالقضاء شيئاً مستحيلاً كمثل ركوب بساط الريح ومثل خروج الجني من مصباح علاء الدين حتي الحركة النسائية المصرية لم تكن مهتمة بتلك القضية فبعد استبعاد الدكتورة عائشة راتب من التعيين بالقضاء اندثرت القضية ونسيت تماماً واهتمت الحركة النسائية المصرية بالزواج والطلاق والنفقات واعتبارا من بداية الثمانينيات خرجت أصوات ضعيفة تسأل لماذا لا تعمل النساء المصريات أسوة بالنساء العربيات في بلاد كثيرة في القضاء وقتها سخر الجميع من تلك الأصوات الضعيفة وأصواتها واعتبروا سؤالهم جنوناً لا يستحق حتي الرد عليه وخرج علينا الكثيرون بمناقشات فقهية وفلسفية تفيد بأنه لا يجوز اشتغال النساء بالقضاء.
لكن الرياح لا تسير كما تشتهي السفن ففي نفس الوقت الذي ارتفعت فيه أصوات كثيرة تطالب بعودة المرأة للمنزل وإخراجها من سوق العمل لأنها سبب بطالة الشباب وازدحام الشوارع وانحراف الأطفال وتصاعدت أصوات كثيرة تقول إن النساء تصلح لأعمال محددة تمارس فيها أمومتها الغريزية كمثل التمريض والتدريس والطبخ والتفصيل ، في ذات الوقت تمسكت الحركة النسائية المصرية أكثر فأكثر بحق النساء في المساواة القانونية مع الرجال في الحقوق والواجبات وتصاعدت أصوات عالية خلف أصوات أعلي تسأل لماذا التمييز ضد النساء وحرمانهن من الاشتغال بالقضاء رغم أن الدستور المصري ينهي عن التمييز؟ ورغم أن قانون الهيئات القضائية لا يستبعد النساء؟ ورغم أن الذكورة ليست شرطا من شروط تولي العمل القضائي؟
وأعدت عشرات الدراسات القانونية والشرعية التي تؤكد حق النساء في الاشتغال بالقضاء وتم استعراض تجارب عربية وإسلامية كثيرة تشغل فيها النساء المناصب القضائية منذ عقود طويلة كسورية وتونس والسودان "حتي وقت قريب" وباكستان وإيران وغيرهم وعقدت العديد من المؤتمرات وحلقات المناقشة والبحث حول المعوقات الواقعية التي تحول بين اشتغال المرأة المصرية تحديداً بالعمل القضائي وسيقت حجج كثيرة منها الحجج البيولوجية المتعلقة بطبيعة المرأة وأنوثتها والحجج الاجتماعية كأهمية دور المرأة داخل الأسرة وتربية النشء وقال البعض صراحة إن أعصاب المرأة لا تسمح بممارسة العمل القضائي وقالوا إن التقاليد والعادات لن تسمح للمرأة المصرية بالتأخر خارج المنزل والسهر إن لزم الأمر بسبب تأخر وقت التحقيقات بالتجاهل لعمل الطبيبات في النوبطشيات المسائية والتجاهل لعمل مضيفات الطيران والسفيرات وعضوات السلك الدبلوماسي اللاتي يسافرن خارج الوطن للعمل وبالتجاهل لعمل المذيعات والإعلاميات التي قد يحتاج عملهن السهر خارج المنزل بل والمبيت أحيانا خارجه، وقالوا إن أعصاب المرأة ورهافتها لن تسمح لها بمعاينة الجثث والتعامل مع المجرمين والقتلة بالتجاهل لعمل الطبيبات والطبيبات الشرعيات في المشرحة وبالتجاهل لعمل المحاميات في التعامل مع المجرمين والقتلة وأرباب السوابق.
وفي هذا السياق وبسببه نوقشت قضايا كثيرة حول كفاءة المرأة وقوة أعصابها ورهافة عواطفها وقدرتها علي التجرد وعدم الانحياز و... عينت أول قاضية في المحكمة الدستورية العليا مما عد نجاحا للمرأة المصرية يضاف لسجل نجاحاتها وإنجازاتها العملية وفرحت الحركة النسائية المصرية بذلك لكنها لم تعتبره كافيا وشخصت ببصرها إلي ما هو أكثر من هذا وتجاوز طموحها المدي وحلمت بنساء يجلسن علي منصات القضاء في جميع المحاكم ويشاركن في أعمال النيابة العامة دونما تمييز حميد لصالحهن باستثنائهن من الأعمال الشاقة التي لا تتناسب مع أنوثتهن!!
وسرعان ما لحق ذلك تعيين عدد من القاضيات في المحاكم وهن النساء اللاتي أثبتن كفاءة وجدارة وجلسن علي المنصة وأصدرن الأحكام مع زملائهن ونسين أنهن نساء وخرجت الأنوثة ورهافة العواطف من المحاكم وجلس علي منصاتها الأكفاء ممن يصلحون لممارسة ذلك النوع من العمل رجالاً كانوا أو نساء!! وفرحت طالبات كليات الحقوق وراودهن حلم الاشتغال بالقضاء وتبارين مع زملائهن علي التفوق والتقديرات العالية أملا في ارتداء وشاح القضاء!!
خطوة للأمام
نعم.. ما حدث خطوة للأمام، المرأة المصرية تمد قدمها وتثبت وجودها بكفاءة في الهيئة القضائية بعد نجاحات كثيرة في مجالا كثيرة لا مجال لذكرها والتمييز ضد النساء في هذا الشأن في طريق للنقصان أملاً في زواله تماما نعم مازلت أنا شخصيا وكثيرات مثلي يعتبرن ما حدث ليس كافيا لا أطمح في تعيين ثلاثين أو خمسين قاضية بل كنت ومازلت أطمح في تعيين مئات القاضيات ابتداءً من وظيفة معاون نيابة وصولا لمقاعد محكمة النقض نعم أعلم أن هذا يحتاج وقتا طويلا وجهدا طويلا وتمسكاً من النساء بحقهن لا يتنازلن عنه أبدا تحت أي حجج أو مبررات أعلم هذا كله لكن من قال إن الأحلام يقتلها الوقت أو الانتظار أو حتي الهزائم المؤقتة!!
أماني لم تحقق
ما حدث خطوة للأمام لكن معظم رجال الهيئة القضائية للأسف وقت تعيين القاضيات كانوا يتمنون ألا يحدث هذا لتظل الهيئة القضائية ذكورية صرفة بلا أي مشاركة نسائية لا في أعمال النيابة ولا علي منصات الأحكام ومازلنا نذكر العدد الخاص من مجلة نادي القضاة التي أصدروها خصيصا للإفصاح والتعبير عن رأيهم في تعيين النساء كقاضيات واستكتب فيها العديد من خيرة رجال القضاء والمفكرين فقال واحد واثنان أوافق علي تعيين النساء في القضاء وقالت الأغلبية الساحقة لا نوافق وساقوا جميع الحجج في إثبات استحالة عمل النساء كقاضيات!! لكن النساء عين في القضاء ومارسن أعمالهن ونسي من كان يعارض معارضته ونسي من كان يرفض أسباب رفضه وأصبح الأمر واقعاً يلزم التعايش معه وتقبله!! ولو كانت الجمعية العمومية لنادي القضاة قد صوتت قبل تعيين القاضيات بربع ساعة علي رأيها من تعيين النساء أعتقد لأصدرت رأيا ربما بالاجماع يفصح عن رفض القضاة تعيين النساء بينهم!! لكن النساء عين في وظائفهن كقاضيات بصرف النظر عن موافقة أو رفض الجمعية العمومية لنادي القضاة ومارسن عملهن وصرن جزءاً من الهيئة القضائية المصرية!!
لذا لم أنزعج من رأي الجمعية العمومية لمجلس الدولة وأغلبيتها الساحقة الرافضة لتعيين النساء كقاضيات في المجلس بل، أسعدتني الأقلية التي قبلت ذلك التعيين، أسعدني موقفهم الجريء الصريح من إنهاء التمييز غير الدستوري ضد النساء، أسعدني موقفهن باحترام كفاءة النساء وقدرتهن علي ممارسة جميع الأعمال والوظائف، أسعدني موقفهم الذي يقبل الكفاءة ويحترمها بصرف النظر عن الجنس وعن الذكورة والأنوثة!!
لم أنزعج من رأي الجمعية العامة لمجلس الدولة ولم أنزعج من رأي أعضائها في رفضهم لتعيين النساء كقاضيات بالمجلس لكني تعاملت مع ذلك الرأي باعتباره رأيا ليس إلا، رأياً قابل للتغير والتبدل وربما غدا وأقرب مما نتصور تتغير وجهات نظر أعضاء الجمعية العمومية وتتحول الأقلية التي وافقت علي تعيين النساء بالمجلس لأغلبية ساحقة هذا مجرد رأي ليس إلا!! الدستور المصري فقط
لكن هل لرأي الجمعية العمومية لمجلس الدولة سطوة تعطل تعيين النساء كقاضيات سواء في القضاء العادي أو في مجلس الدولة بمعني لو صدر قرار بتعيين النساء كقاضيات بمجلس الدولة هل للرأي الرافض للجمعية العمومية لمجلس الدولة قوة تحول بين تنفيذ ذلك القرار أو تعرقل تنفيذه أو تلغيه؟
مع احترامي للجمعية العمومية لمجلس الدولة وقضاتها لا أظن هذا، هم قالوا رأيهم ونحن نحترمهم ونحن سنسعي بكل قوة لتدعيم وضع النساء في جميع المجالات العملية والمهنية في مجتمعنا تنفيذاً لأحكام الدستور المصري التي تمنع التمييز ضد النساء في كل شيء بما فيها العمل كقاضيات بمجلس الدولة!!
لم أنزعج مثلما انزعج الكثيرون لأنني أعتبر إلغاء أشكال التمييز ضد النساء وإقرار المساواة القانونية بينهن وبين الرجال في مختلف المجالات والأعمال والوظائف والحقوق والنصوص القانونية حرباً طويلة شرسة مع أفكار راسخة وعادات وتقاليد وأناس يؤمنون بتلك الأفكار ويحترمون تلك العادات والتقاليد ويدعمونها ويسعون بكل الطرق لإقصاء النساء وتهميشهن والاعتراف فقط بالدور الأمومي والأسري لهن، هي حرب طويلة قد تنتصر النساء في إحدي معاركها وقد تنهزم في أخري والحرب سجال قد يتقدم المجتمع خطوة للأمام في طريق تمكين المرأة ودعمها وتمكين وجودها الاجتماعي الوظيفي الفاعل وإقرار مساواتها مع الرجال في الأعباء والواجبات والحقوق وعلي نفس الطريق قد يعود المجتمع نتيجة لضغوط وتفسيرات خاطئة للنصوص الشرعية والقانونية قد يعود خطوتين ثم سرعان ما يتقدم مرة ثانية خطوة واثنتين وعشراً للأمام لكن من يتأمل حال مصر من مائة سنة ووضع المرأة فيها ويتأمل حال مصر الآن ووضع المرأة فيها يمكنه ببساطة تصور شكل المستقبل الذي يرحب بوجود النساء ودورهن المجتمعي ويدعم كفاءتهن ويفسح لهن المجال لإثبات ذواتهن وتحقيق نجاحاتهن!! الحركة تسير للأمام بصرف النظر عن التفاصيل المحزنة في كثير من الأحيان!!
لقد دخلت المرأة المصرية مجال العمل بالقضاء وأثبتت نجاحات ويوما بعد يوم ستدعم مكانها فيها وسيشار لها بالبنان مثلما حدث في مجالات كثيرة حتي لو نجحت الآراء المختلفة اليوم في إقصاء النساء عن منصات الأحكام والعمل القضائي فلن يكون مسلكهم وآراؤهم في حقيقته إلا تمييزاً ضد النساء يخالف الدستور سيتم تصحيحه في يوم آخر قريب مهما تأخر معياده!! لا أنظر لنصف الكون الفارغ
لا أنزعج مما يحدث لأنني علمت نفسي منذ زمن طويل أن أري نصف الكوب المليان وأفرح به ولا أقتل نفسي حزنا علي نصف الكوب الفارغ!! لا أنزعج مما يحدث لأنني أؤمن بأن أجمل الأيام هي التي لم نعشها بعد كما قال الشاعر التركي ناظم حكمت!! لا أنزعج مما يحدث لأنني أؤمن بالمستقبل وأراه جميلا مهما كان الطريق إليه وعراً شاقاً موجعاً!! هل سمعتم يوما عن أن المستقبل لم يأت علي وطن ما واستمر يعيش في الماضي فقط؟
الفترة الأخيرة في الخمسين سنة الماضية خاضت النساء المصريات فيها عشرات المعارك الصغيرة دفاعا عن حقوقهن الدستورية وإلغاء أشكال التمييز بينهن وبين الرجال لصالح الرجال وإثباتا لحقهن في الوجود ودعما لكفائتهن ورفضا لحصرهن في أدوار اجتماعية محددة كالأمومة وتربية الأطفال وأسفرت تلك المعارك الكثيرة عن دعم حقيقي للمرأة المصرية وإثباتاً لوجودها وكفاءتها ونجاحها، تعليم البنات كان يوما قضية كبيرة واليوم لم يعد اشتغال النساء عموما بأي عمل كان قضية كبيرة واليوم لم يعد ممارسة الحقوق السياسية وحق الانتخاب والترشيح كان يوما قضية كبيرة واليوم لم يعد.. منح جنسية المرأة المصرية لأولادها أسوة بالرجل كان قضية كبيرة واليوم لم يعد.. منح الرجل معاش زوجته العاملة كان قضية كبيرة واليوم لم يعد.. منح المرأة المصرية حق الخلع وتطليقها من زوجها الذي لم تعد تحبه أو تطيق عشرته كان قضية كبيرة واليوم لم يعد.. اشتغال النساء بالكثير من الوظائف المحاماة، السلك الدبلوماسي، الطبيبات الشرعيات كعمدة كمأذون كنائبة في البرلمان كان قضية كبيرة واليوم لم يعد.. اشتغال النساء بالقضاء كان ومازال قضية كبيرة لكن غدا أو بعد غد لن يكون كذلك!!
رجال ضد حركة التاريخ
الجملة الأخيرة كان ومازال كثير من الرجال يعارضون النساء ويعارضون حقوقهن الدستورية وإلغاء أشكال التمييز ضدهن لكن تلك المعارضة لم توقف حركة التاريخ صوب المستقبل ولم تلغ وجود النساء علي جميع الأصعدة السياسية والاجتماعية والمهنية ولم تحاصرهن في دور الأمومة وتربية النشء علي أهميته و بالعكس أثبتت النساء في جميع المجالات نجاحا مشهوداً ملحوظاً وكفاءة تنال الاحترام من الرجال قبل النساء!!
وها أنا أقول ثانية عملت المرأة المصرية وزيرة وسفيرة ومحامية وطبيبة وأستاذة جامعة ورئيسة جامعة وعميدة ومعيدة وصحفية وإعلامية وكاتبة ومخرجة ومذيعة ومراسلة ومعدة برامج وسائقة ومهندسة ومحاسبة وممرضة ومدرسة وناظرة وأثبتت نجاحات مبهرة والمرأة صارت رئيسة جامعة ورئيسة مجلس إدارة شركة ورئيسة قسم بالجامعة ورئيسة ومديرة إدارة بالبنوك وتولت العمل الأهلي ورئاسة الجمعيات الأهلية والخيرية وأنشأت الكثير من مؤسسات العمل الخاص والمصانع والمحلات التجارية واشتغل تحت أيديها وإمرتها رجال كثيرون، نسوا وهم يعملون تحت رئاستها أنوثتها ونوع جنسها واحترموا عقلها وكفاءتها وقدرتها علي تعليمهم وقيادتهم وتحقيق أعظم النجاحات تحت رئاستها، أنا هنا أتحدث عن واقع حقيقي يعيشه المجتمع ولو أنكره الكثيرون!! وغداً ستحقق النساء المصريات بكفائتهن وجهدهن الكثير والأكثر!!
السطر الأخير - البنت زي الولد ماهيش كمالة عدد.. رحم الله صلاح جاهين!!
نشرت بجريده روز اليوسف اليوميه الجمعه 19 فبراير 2010
http://www.rosaonline.net/Daily/News.asp?id=45415
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق