بقلم عبد الله كمال ...
تلك قراءة واضحة للمشهد : أدت ثورة ٣٠ يونيو إلى نتائج لا يمكن تجاهل تأثيرها، وإن أنكرتها بعض القوى. لم تسقط حكمًا فقط، ولم تقض على مشروع متطرف فحسب، ولم تنه جماعة عريقة خدعت المجتمع ثمانين عامًا، إنما هدمت معادلة السياسة التي حاولت إنتاجها ٢٥ يناير، ولم تصمد أمام أنواء الرأي العام واتجاهات المصريين.
كانت المعادلة عبارة عن تحالف نشأ منذ عام ٢٠٠٥ تقريبًا بين القوى اليسارية، ومن يصفون أنفسهم بالقوى الليبرالية، وعدد من أحزاب معارضة حكم مبارك، مع جماعة الإخوان.. حيث سعت - إلى أن نجحت - لإنهاء نظام الرئيس الأسبق . بخلاف هذا كان هناك هدف كامن لذات التحالف يرغب في أن يقضي على منظومة حكم يوليو ١٩٥٢ برمتها .. لكن ملابسات ٢٥ يناير أدت - اضطرارًا -إلى أن يتقبل الثنائي الديني - العلماني بوجود الجيش عنصرًا أساسيًا في المعادلة الجديدة .. ليس حبًا في الجيش وإنما لأنه لا يوجد بديل آخر، فضلًا عن عدم القدرة على مواجهة ذلك.
المعادلة لها جذور - يمكن في ذلك الرجوع إلى مقالي في ٢٦ فبراير ٢٠١٢ «صراع مصر ..مثلث رباعي الأضلاع» - إذ على مدى السنوات الستين السابقة كانت ساحة مصر كمثلث موزعة بين ثلاثة أضلاع : الدولة - الحكم ، التيارات اليسارية والمنادية إلى جانبها بالديموقراطية، تيارات الإسلام السياسي ..
وعلى فترات مختلفة كان الضلع الأول يعقد تحالفاته مع أي من الضلعين الآخرين في مواجهة الضلع المتبقي. إلى أن وقع الحدث الفريد وتحالف الضلعان الثاني والثالث معًا ضد الأول، وبمساعدة ما من الضلع الرابع ..خارج المثلث، أي الضغوط الخارجية لاسيما الأمريكية.
استغل الإخوان كل فوائد التحالف إلى أن وصلوا للحكم، وظنوا أنه يمكن هدم المثلث برمته، لكي تصبح المعادلة قائمة على ضلع واحد يدمج بينهم وبين المساندة الأمريكية .. مع الإطاحة بالضلعين الباقيين .. ضلع الدولة -مؤسسات الحكم ، وضلع التيارات اليسارية والمطالبة بالديموقراطية .. تحول الطمع إلى نهم وتطورت الشهوة التوسعية إلى طغيان .. إلى أن دخل على المعادلة الطرف الأهم والأقوى .. الشعب .. فقال كلمته يوم ٣٠ يونيو وقضى على المشروع الإخواني ..ليس في مصر فحسب ولكنه يهدد وجود بقايا المشروع برمته إقليميًا وعالميًا.
كان أول الخاسرين من بطش الإخوان - بعد الإخوان- هو ضلع التيارات اليسارية وما حولها، ومرة أخرى اضطر إلى أن يدخل في مسار إجباري – لا فكاك منه - بالمضي قدمًا إلى حيث ترغب مؤسسات الدولة وفي مقدمتها القوات المسلحة، والظهير الاجتماعي الأعرض خلف تلك المؤسسات وفي صدارته القوى التقليدية .. ما أنشأ تحالفًا وصفته في مقال سابق بتاريخ ٥ أغسطس الماضي بأنه «تحالفنا المؤقت والهش »
وعلى الرغم من الإنجاز التاريخي الذي حققته ثورة ٣٠ يونيو للقوى اليسارية والمنادين بالديموقراطية والتيارات التي تصف نفسها بأنها ليبرالية، وهو ترسيخ الواقع الاجتماعي للمشروع المدني العصري للدولة المصرية، وتأكيد رفض الحكم الديني .. ما يضيف إلى رصيدها قبل الآخرين.. إلا أن تلك القوى، خصوصًا التي حصلت على زخم دافع في ٢٥ يناير عانت ابتئاسًا وإحباطًا ..حتى وهي تسيطر على مقاليد حكومة تدير مصر أثناء الفترة الانتقالية لخريطة الطريق.
ذلك أن القوى اليسارية وما حولها هي أول من يدرك أن استيلاءها على قمة المعادلة تنفيذيًا ليس له ما يسانده اجتماعيًا وسياسيًا .. وأنها تصدرت المشهد لأسباب طارئة لا تعبر عن التغيير الثوري الحقيقي في المجتمع كما أن الواقع الجديد يستند إلى قوى اجتماعية أخرى أكبر وأعرض وأشد تأثيرًا لديها رفض حقيقي للضلع اليساري وما حوله .. وإن كانت تتمتع بالفطنة السياسية التي تبقي خريطة الطريق ماضية في مسارها.
ولأن موعد كشف هذه الحقيقة قد حان، مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية، كان أن قرر هذا الضلع اليساري وما حوله أن يعيد بناء تحالف ضمني مع جماعة الإخوان .. بدون أن يكون ذلك معلنًا .. ولكن من خلال خطوات محددة تستغل القدرة التنفيذية المتاحة الآن لليسار وما حوله لإعادة فتح الأبواب أمام ما تبقى من جماعة الإخوان، وبحيث تعود إلى الساحة بشروط يفرضها هذا اليسار.
إن الهدف البسيط، والمتذاكي، هو أن الثورة الشعبية قد قوضت طغيان الإخوان .. وأسقطت حكمهم .. والإجراءات التي تتخذ ضدهم قانونيًا قد أضعفتهم تنظيميًا .. لكنهم في نهاية الأمر - وفق التحليل اليساري – قوة يمكن التحالف معها مجددًا ..بعد أن تأدبت .. وبحيث تعود سيناريوهات ما بعد ٢٠٠٥ وحتى ٢٠١١ .. ويتحالف الضلعان الديني واليساري في مواجهة الدولة وجيشها وظهيرها الاجتماعي العريض ممثلًا في القوى التقليدية.
من ثم تتناثر في الساحة تنظيرات حول أنه لا يمكن أن يتم إقصاء الإخوان جميعًا من الساحة.. وأن علينا أن نكتفي بمحاسبة الذين ارتكبوا جرائم الدم ولهذا تأجل كثيرًا قرار وزير التضامن الاجتماعي بشطب جمعية الإخوان المسلمين .. ولنفس السبب تتبعثر في الأجواء أحاديث حول انخفاض شعبية الجيش ..وتململ الرأي العام .. وضغوط الأزمة الاقتصادية التي يعقدها غضب مظاهرات الإخوان.. كنوع من التشجيع لأي محاولات تؤدي إلى استيعاب الإخوان بصورة ما في صيغة سياسية .. وبما يصب في صالح تلك القوى .. ويحقق أهدافًا أخرى ليس شرطًا أن يكون مصدرها الساحة المصرية.
عمليًا، يقوض الرأي العام الشعبي الجارف أي مساعٍ لذلك، في ظل رفض عام ومتنامٍ لكل ما له علاقة بالإخوان .. ولاسيما مع إدراك الفئات الاجتماعية المختلفة لحجم الارتباط بين الإخوان وجماعات الإرهاب في سيناء ومختلف أنحاء مصر، فضلًا عن أن كل ما يحدث في الشارع المصري الآن من اختناقات متنوعة .. اجتماعية وسياسية واقتصادية وصولًا حتى إلى المرورية يعود إلى الإخوان وتصرفاتهم ..وعدم قبولهم بالقرار الشعبي الثوري الذي أدى إلى إسقاط حكمهم .
إن أهم ما تتجاهله هذه الترديدات، وتلك المساعي، أن جماعة الإخوان متورطة حتى أذنيها في الدم ..وصولًا إلى قيادات الصف الثالث .. سواء بالأمر المباشر أو بالتحريض أو بالمشاركة . وإذا كان من المرفوض ديموقراطيا إقصاء أي مواطن استنادًا إلى الانتماء السياسي - إذا كان هذا الانتماء يتسق مع القانون - وإذا كان من حق كل مواطن أن يعبر عن رأيه ..فإن بقية أعضاء الجماعة يؤيدون عمليات القتل والإرهاب خلال مظاهرات تستغل الحق في حرية التعبير.. وتؤيد جماعة محظوره قضائيًا .. بل وتلوح بالتهديد للشعب ..وتعلن بوضوح أنها تستهدف تعطيل مسار حياته وهدم اقتصاده .
سوف يفشل هذا المسعى، ولن يقوم تحالف من هذا النوع، بل وربما انجرفت تلك المحاولات إلى دفع التيارات الوطنية المصرية لتصنيف اليسار وما حوله في نفس الموقع الذي صنف فيه جماعة الإخوان وحلفاءها .. والأهم من كل ذلك أن الإخوان أنفسهم - أو ما تبقى منهم على كل حال - ليسوا مستعدين لأن يذهبوا إليه .. وسوف يكون هؤلاء اليساريون وما حولهم أول ضحايا أي تمكين جديد للجماعة التي ثبت - بعد خداع سنوات طويلة للبعض - أنها منبع الإرهاب.. ولا أحد غيرها.