الثلاثاء، 15 ديسمبر 2009

عشاق البهجة




تمسك المصريين بحقهم في السعادة والانبساط هو وسيلتهم للمقاومة والصمود أمام الصعوبات والأخطار....
المصريون شعب جميل محب للحياة‮ ‬يبحث طيلة الوقت عن السعادة ولاينتمي لحضارة الموت وثقافتها كما‮ ‬يروج بعض المثقفين،‮ ‬المصريون شعب‮ ‬يبحث عن السعادة بكل الأشكال حتي لو كانت بسيطة بل ويسعدهم أي شيء وكل شيء وعلي مر العقود والسنوات لم‮ ‬ينجح الهم أو كثرة المشاكل أو صعوبة الحياة أبدا في تحطيم أو تحجيم وهج السعادة من حياة المصريين وإصرارهم عليها،‮ ‬بل‮ ‬يمكنني باطمئنان ضمير القول بأن تمسك المصريين بحصولهم علي حقهم أو نصيبهم من السعادة و"الانبساط‮" ‬إنما هو وسيلتهم للمقاومة والبقاء والصمود في أوجه صعوبات وأخطار وشرور كثيرة‮. ‬
فكلما صعبت الدنيا ابتكر المصريون العباقرة سبلا تتيح لهم الفرح كأن الفرح والبهجة هما الترياق الذي‮ ‬يحصن المصريين ضد سموم الحياة اليومية ومشاكلها وصعوباتها،‮ ‬ويمكنني أيضا القول أن عبارة‮ "اللهم اجعله خير‮" ‬تلك العبارة التي‮ ‬ينهي بها كثير من المصريين لحظات سعادتهم وفرحهم وضحكهم لا تعني أبدا أنهم متشائمون‮ - ‬كما‮ ‬يحلو للبعض القول‮ - ‬أو أنهم‮ ‬يخافون من لحظات السعادة أن تنقلب عليهم بحزن‮ ‬يتحاشونه بالدعاء،‮ ‬علي العكس أنا أري أن المصريين‮ ‬يعربون عن تمسكهم بالسعادة والفرحة ويدعون القدير في نهاية لحظات سعادتهم بأن تبقي تلك السعادة خيرا عليهم‮! ‬هكذا ببساطه أري الأمر‮!‬
المصريون شعب جميل‮.. ‬قلبه‮ "أخضر‮" ‬نابض بالسعادة ويحب الحياة والفرحة والبهجة بكافة أشكالها ويعيشها قدر مايمكنه ودعك من الملامح المتجهمة التي نراها علي وجوه المصريين وهم ذاهبون للعمل‮ ‬يعانون تكدس المواصلات وزحمتها أو وهم‮ ‬يشكون من ارتفاع الأسعار وشدة الغلاء،‮ ‬ودعك أيضا مما نقرأه في الصحف والمجلات وما نسمعه في برامج‮ "التوك شو‮"‬،‮ ‬والبرامج الإخبارية من أخبار الغضب الشعبي والاحتجاجات الشعبية علي قرارات اقتصادية وسياسات اجتماعية فالمصريون نجحوا في ترويض التناقض بين انتفاضاتهم أو‮ ‬غضبهم في بعض الأوقات وبين رغبتهم في التمسك بالسعادة والفرحة في معظم الأوقات،‮ ‬بل إن الانتفاضات الاقتصادية والحركات السياسية المطلبية التي‮ ‬يعلن عنها المصريون لا تكشف إلا عن حبهم للحياة ورغبتهم في العيش بشكل أفضل‮ ‬يتيح لهم السعادة التي‮ ‬يتمسكون بها اكسيرا لحياتهم،‮ ‬وإبداع الشخصية المصرية لا‮ ‬ينضب أبدا في ابتكار أشكال البهجة التي تسعد حياتهم‮ ‬فقراء ومتوسطي الحال وأغنياء،‮ ‬فالسعادة ليست حكرا علي طبقة اجتماعية دون أخري،‮ ‬ولم تقف الإمكانيات المالية‮ - ‬الكثيرة أو القليلة‮ - ‬عائقا أبدا في وجه المصريين للحصول علي نصيبهم العادل من السعادة والفرحة‮.‬
وإذا كان المصريون خرجوا عن بكرة أبيهم‮ ‬يرقصون في الشوارع والميادين‮ ‬يحملون أعلام الوطن ويهتفون باسمه‮ ‬يوم انتصار فريقنا القومي بكأس أفريقيا ‮٢٠٠٦ - ٢٠٠٨ ‬فإنهم أيضا خرجوا‮ ‬يوم وصلت مصر لتصفيات كأس العالم في إيطاليا عام ‮١٩٩٠ ‬يهتفون في الشوارع متشابكي الأيدي‮ "روما‮.. ‬روما‮" ‬واعتبر المصريون أن انتصاراتهم الكروية وانتصارات فريقهم القومي مصدر لسعادتهم وفرحتهم،‮ ‬ففي كل مناسبة من تلك المناسبات خرج المصريون شبابا وشيوخا فتيات وشبابا أغنياء وأبناء العشوائيات خرجوا‮ ‬يرقصون معا ببهجة وفرحة‮ ‬يغنون ويصفقون بسعادة ولم نقرأ وقتها عن حالة تحرش جنسي واحدة ولم نقرأ عن سرقة سيارة أو حالة نشل وسط ذلك الزحام لأن المصريين عاشوا لحظات السعادة والفرحة حتي الثمالة واحتفلوا بوطنهم وعلمه وفريقه القومي وانتصاراته بمنتهي الحماس والجدية والبهجة فتحول الجوهري عام ‮١٩٩٠ ‬لرجل أسعد المصريين ومعه فريق من الرجال الذين شدا المصريون بأسمائهم وهتفوا بها عالية وفي عام ‮٢٠٠٦ - ٢٠٠٨ ‬صرخت الملايين تحيي حسن شحاتة وفريقه وأبوتريكة وعمرو زكي وزيدان والحضري الذين أسعدوا المصريين وأدخلوا البهجة في قلوبهم‮!‬
المصريون شعب جميل فرض طريقته في السعادة علي الدنيا التي‮ ‬يعيشها وأحب من أسعده أحب عبدالحليم حافظ الذي أسعدهم حين آمن بالثورة وغني لها كلمات صلاح جاهين أغاني سياسية ذات مضامين صعبة و"علي باب بستان الاشتراكية‮" ‬وهو الذي أحب في وقت آخر آحمد عدوية الذي أسعدهم حين ردد كلماتهم الفولكورية وغناها معهم و"سلامتها أم حسن‮" ‬هو الذي‮ ‬يحب شعبان عبد الرحيم المطرب الشعبي الذي‮ ‬يغني في الأفراح‮ "باحب عمرو موسي وباكره إسرائيل‮" ‬ويتمايل ويتراقص علي نغماته وكلماته العروس والعروسة وأصدقاؤهم الشباب،‮ ‬أسعد عبدالحليم حافظ وأحمد عدوية وشعبان عبدالرحيم المصريين بأغنياتهم السياسية الوطنية الشعبية الفولكورية المعقدة البسيطة،‮ ‬جميعهم أسعدوا المصريين فأحبوهم‮ !‬
والمصريون‮ ‬يعبرون عن سعادتهم بكل الطرق الاحتفالية ويحتفلون في كل المناسبات التي‮ ‬يعيشونها فينتظرون الحجاج بالأعلام البيضاء‮- ‬وكانوا ومازال بعضهم‮- ‬يرسمون علي واجهات منازلهم احتفاء بالحجاج باخرة وطائرة و"حج مبرور وذنب مغفور‮"‬،‮ ‬ويحتفلون بأفراحهم بطريقة جميلة مابين زفة شعبية في الشارع علي دقات الدفوف ونغمات‮ "الدي جي‮" ‬أو زفة فخمة في أفخر الفنادق أو قاعات الأفراح و"بسم الله الرحمن الرحيم وهنبتدي الليلة‮"‬،‮ ‬ويحتفلون بأولياء الله الصالحين وأهل البيت بالموالد المزدحمة و"الليلة الكبيرة‮ ‬ياعمي والعالم كتيرة ماليين الشوادر‮ ‬يابا والريف والبنادر‮"‬،‮ ‬حتي زيارة القبور حولها المصريون لمناسبة احتفالية‮ ‬يوزعون فيها‮ "الرحمة‮" ‬ويضعون فوق الشواهد باقات الورود حبا في الغائبين عنهم،‮ ‬يحتفلون بأعيادهم الدينية والإجازات الرسمية بالذهاب للحدائق العامة والمنتزهات و"أكل وشرب واستغماية‮"‬،‮ ‬ويرقصون علي نغمات الطبلة المصرية‮ "تويست الجناين‮"‬،‮ ‬وفي عيد الحب‮ "الفالنتين‮" ‬هذا الاحتفال المستحدث في مصر‮ ‬يرتدي الشباب والشابات الملابس الحمراء ويتبادلون الورود و"الدباديب‮" ‬الحمراء وتمتلئ الشوارع بأجواء احتفالية مبهجة‮!! ‬إنه شعب‮ ‬يبحث عن السعادة ولو‮ "من خرم إبرة‮"!!‬
إنه شعب جميل فرض شخصيته ومذاقه وطريقته في حب الحياة والسعادة علي كل أيامه وكل تصرفاته،‮ ‬فإذا كان خبراء وزارة العدل قد اعتصموا علي سلم الوزارة خمسين‮ ‬يوما فإنهم في ليلة رمضان‮ "علقوا‮" ‬فانوساً‮ ‬كبيراً‮ ‬فوق رؤوسهم ليس فقط كما قال البعض لتذكرة الوزير والحكومة بأنهم نائمون علي السلم،‮ ‬وشهر رمضان دخل عليهم،‮ ‬بل لأنهم مثل كل المصريين اعتادوا استقبال ذلك الشهر باحتفاء خاص متمثل في إضاءة فانوس رمضان،‮ ‬فإذا بالخبراء وسط‮ ‬غضبهم واحتجاجاتهم لم‮ ‬ينسوا أن‮ ‬يعيشوا احتفالهم الخاص مثل كل المصريين بذلك الشهر الكريم الذي‮ ‬ينتظره المصريون،‮ ‬ليس فقط باعتباره شهر تقوي ورحمة وإيمان وعتق من النار،‮ ‬بل‮ ‬ينتظرونه باعتباره شهر بهجة ويستعدون له بتزيين شوارعهم وحاراتهم بالزينات الورقية المبهجة والفوانيس التي‮ ‬يتشارك الجيران في تكافل جميل في قيمة تكلفتها فإذا بشوارع الوطن تتألق بالزينات كأننا نعيش عرسا جماعيا وفرحة شاملة في كل البيوت،‮ ‬وكل الشوارع،‮ ‬وكل الحارات،‮ ‬وتلك الزينات في ذاتها تشيع البهجة في أعين الناظرين والتمسك بوجودها وصناعتها وتعليقها في معظم الحارات والشوارع وأيضا الإبداع في ابتكار أشكالها وألوانها بما‮ ‬يكشف عن إصرار مصري صميم علي الإحساس بالسعادة والبهجة كأننا‮ "نتلكك‮" ‬لوجود مناسبات سعيدة وأيام فرحة‮!! ‬وإذا كان نيل مصر ومازال‮ ‬يسعد شعبها منذ أيام الاحتفال بأعياد وفاء النيل وحتي الآن،‮ ‬ومازال الجلوس علي النيل و"شم الهوا‮" ‬طقساً‮ ‬مصرياً‮ ‬جميلاً‮ ‬وكم من قلوب متحابة جمع بينها شاطئ النيل وضفافه والكثير من العائلات المصرية تعتبر‮ "فسحتها‮" ‬الرئيسية هي النيل،‮ ‬مابين جلوس علي ضفتيه أو‮ "فلوكة‮" ‬علي سطحه أو‮ "القعدة في كازينو‮" ‬أو حتي‮ "المشي‮" ‬علي الكورنيش ساعة المغربية،‮ ‬وإذا كان أغنياء الوطن‮ ‬يستمتعون بالنيل الجميل من خلال الفنادق الكبري والمحال والمطاعم السياحية التي تستأثر ببعض مناطق لايدخلها إلا المميزون اجتماعيا والقادرون علي‮ "الأسعار المولعة‮"‬،‮ ‬فإن الطبقة المتوسطة المصرية تستأثر بأجزاء من ضفاف النيل من خلال نواديها الخاصة التي أنشأتها النقابات المهنية والأندية الرياضية والاجتماعية،‮ ‬فإن الفقراء لم‮ ‬يعدموا حيلة للاستمتاع بالنيل والإحساس ببهجته وفرحة النظر إليه،‮ ‬فإذ بهم‮ ‬يخترعون بمبادرات شخصية منهم منتزهات الكباري،‮ ‬حيث‮ ‬يصعدون فوق الكباري الرابضة فوق النيل ويجلسون علي أرصفتها ويوما بعد‮ ‬يوم رصت المقاعد البلاستيكية والمناضد الصغيرة وانتشر باعة الترمس و"الحاجة الساقعة‮" ‬وحاجة ببلاش كده‮!!! ‬وقعدنا واتفسحنا وانبسطنا‮.. ‬وحين ارتدت الكثير من الفتيات المصريات الحجاب إيمانا وتدينا فإن هذا لم‮ ‬يمنعهن من عيش سعادة الحب والتعبير عن مشاعرهن العاطفية علي كورنيش النيل،‮ ‬ولم‮ ‬يمنعهن من تقديم الواجب والتحية والرقص في أفراح الصديقات وبنات العائلة وجارات الشارع والحارة،‮ ‬وهن ذات البنات اللاتي‮ ‬يصلين التراويح وصلاة العيد في الجامع القريب من بيوتهن‮.. ‬وهن البنات اللاتي كتبن القصص وألفن الشعر وكتبن المدونات علي الإنترنت،‮ ‬وناقشن فيها أجرأ وأسخن القضايا،‮ ‬هذه هي الطريقة المصرية في ممارسة السعادة فيفعل المصريون كل مايسعدهم حتي لو بدا ظاهريا متناقضا ومستعصياً‮ ‬علي التوافق أو الملاءمة‮.‬
وإذا كان جدي‮ "العمدة‮" ‬اختصر السعادة في عبارة موجزة جميلة‮ "كلوا وانبسطوا‮" ‬فإنه كان‮ ‬يعبر ببساطة عن العبقرية المصرية التي حولت كل أعيادها لاحتفالات خصها المصريون بأكلات خاصة‮ ‬يتشاركون فيها ويتبادلونها نوعا من الكرم الجميل وتبادل أشكال‮ "ومذاق‮" ‬الفرحة،‮ ‬فصناعة الكحك كطقس مصري جميل كان ومازال‮ ‬يشيع البهجة في الأسر المصرية‮.. ‬صناعة الكحك التي تتجمع فيها نساء الأسرة وصباياها،‮ ‬أو تتشارك فيها الجارات ثم‮ "وقفة الفرن‮" ‬وحوار النسوة الصديقات والجارات في الليالي الأخيرة من شهر رمضان أمام‮ "الفرن‮" ‬في انتظار‮ "تسوية الكحك‮".. ‬وبيض شم النسيم وألوانه المبهجة كان ومازال طقساً‮ ‬مصرياً‮ ‬أصيلاً‮ ‬تتجمع فيه الأسرة مع أطفالها ليرسموا الفرحة والضحكات والألوان الزاهية علي البيض بمناسبة شم النسيم‮!! ‬المصريون ابتكروا للعيد الصغير الكحك والغريبة والبتي فور،‮ ‬ولشم النسيم البيض الملون والفسيخ والرنجة والملانة والخس ولمولد النبي حلاوة المولد وعروسة المولد وحصانه ورمضان بالكنافة والقطايف وخشاف البلح وفي‮ "الموسم‮" ‬أي‮ "موسم‮" ‬أكلوا البط والرقاق والأرز المعمر،‮ ‬المصريون ابتكروا لفسحتهم علي الكورنيش الترمس والحمص والفول والذرة المشوية والسميط والبيض والجبنة والبطاطا المشوية،‮ ‬وفي‮ "صباحية العروس‮" ‬زاروها بالكحك و"النقطة‮"‬،‮ ‬واعتبروا واجب زيارة المريض بـ"‮٢ ‬كيلو برتقال و‮٢ ‬كيلو موز‮" ‬وقالوا‮ "لقمة هنيه تكفي مية‮" ‬وهم‮ ‬يدعون الناس لمشاركتهم الأكل والسعادة‮.‬
وإذا كان المصريون مازالوا عازفين عن المشاركة الفعالة في الحياة الحزبية والسياسية في مصر فإن هذا ليس خطأهم بل لأن كل البرامج الحزبية وخططهم المستقبلية تخلو من أي إشارة في برامجها‮ "للسعادة والبهجة‮" ‬التي‮ ‬يتوق المصريون في نهاية اليوم،‮ ‬وبعد الجهد والإرهاق والتعب والسعي المضني وراء الرزق لتحقيقها والاستمتاع بها‮.‬
المصريون شعب جميل‮.. ‬منح قلبه وحبه وكل مشاعره لكل من منحه السعادة،‮ ‬وأضفي علي حياتهم لمسات البهجة والفرح،‮ ‬فأحبوا كرة القدم وأحبوا الأراجوز وصندوق الدنيا والبيانولا والساحر ومسرح العرائس،‮ ‬وأحبوا السينما والمسرح ومسلسلات التليفزيون،‮ ‬وأحبوا الغناء والربابة والسمسمية والناي والمزمار البلدي،‮ ‬وأحبوا رقص الخيل وفرقة رضا وفرق المداحين والغناء الشعبي وعلي الحجار ومحمد منير،‮ ‬وأحبوا إسماعيل‮ ‬ياسين وماري منيب وعادل إمام وزينات صدقي وأحبوا صالح سليم والخطيب وأبو تريكة وحمادة إمام وحسن شحاتة وعمرو زكي وأحبوا سعاد حسني‮.. ‬أحبوهم لأنهم منحوهم السعادة والبهجة وهذا مايتوق إليه المصريون‮.‬
المصريون شعب جميل‮ ‬يبحث عن السعادة ويعيشها ويقتنص أوقاتها كلما أمكن له ذلك‮.. ‬والآن وفي أيام العيد الثلاثة التي حلت تأملوا حالته وملامحه وألوان ملابسه واسمعوا صخب وضجيج الفرحة و"انفجارات البمب‮"‬،‮ ‬وانظروا للبالونات المحلقة في السماء والمراجيح الخشبية الملونة في الأحياء الشعبية والسينمات في وسط البلد،‮ ‬والازدحام أمام محلات الكحك والفسيخ والرنجة والجموع المحتشدة علي بوابات وداخل الحدائق والمنتزهات العامة،‮ ‬وعلي كورنيش النيل وفي الهرم والقلعة وعلي شواطئ البحر في إسكندرية والساحل الشمالي والإسماعيلية وبورسعيد ومرسي مطروح‮.. ‬ألم أقل لكم إن المصريين شعب جميل‮!!‬
أدام الله عليهم السعادة والأعياد.



نشرت في 19 سبتمبر 2009

الخميس، 10 ديسمبر 2009

دانتيلا خشنه



دانتيلا خشنه
انا والحبيب - رواية لعمرو عبد السميع

‮"‬أنا والحبيب‮" ‬رواية أهداها لي صديقي عمرو عبدالسميع الذي كنت أظنه ـ جهلا مني ـ باحثًا وصحفيا ومحاورًا ومتخصصًا في العلوم السياسية فقط،‮ ‬فتعجبت من جراءته لخوض عالم الروايات ذلك العالم الذي‮ ‬يحتاج أدوات لم أكن أظنه‮ ‬يملكها‮! ‬وألقيت الرواية بجواري انتظر فرصة لأقرأها اتصورها لن تعجبني وأني في النهاية سأجامله‮ "‬بكلمتين‮" ‬باردتين حتي لا‮ ‬يغضب مني صديقي وسينتهي الأمر‮! ‬وظلت الرواية بجواري بغلافها الصامت لا تناديني ولا أسعي إليها،‮ ‬يؤرقني فقط ما الذي سأقوله له حين التقيه مصادفة أو أحادثه في التليفون،‮ ‬يؤرقني ما الذي سأقوله له حتي لا‮ ‬يغضب مني فهذا جل ما‮ ‬يهمني‮!‬

وفي إجازة العيد سافرت بعيدًا عن القاهرة وصخبها وأخذت الرواية معي مصممة علي الانتهاء منها فبعد تلك الإجازة لن‮ ‬يكون لي عذر مع صديقي ولن أقوي علي تبرير تجاهل روايته وسيغضب مني،‮ ‬لذا لابد من قراءتها‮!‬

وفي أمسية دافئة أمام البحر فتحت صفحتها الأولي ومرت ساعات طويلة وأنا معتقلة بين صفحاتها ألهث مع أحداثها حتي خبطت علي صدري ـ بحق ودون مبالغة ـ في سطرها الأخير‮ "‬يا نهار أسود‮" ‬وانتهت الرواية واشرقت شمس اليوم الجديد‮.‬

رواية‮ "‬أنا والحبيب‮" ‬تقرأها صفحات وراء صفحات فلا تجد‮ "‬الحبيب‮" ‬الذي كتبت الرواية عنه،‮ ‬صفحات وراء صفحات توغل في عالم محكم شيده عمرو عبدالسميع بلغة عربية راقية بليغة مفصحة ليس فقط عن امتلاكه لأدواته الدرامية والفنية بل أيضًا عن امتلاكه لناصية اللغة التي طوع مفرداتها واستخدمها في أوصاف وحوارات لم نكن نتصور لغتنا العربية الفخمة الرصينة تصلح لوصفها أو الحديث عنها‮!‬

صفحات وراء صفحات‮ ‬يسحبك‮ ‬يشدك‮ ‬يجرك عمرو عبدالسميع خلف أبطاله الكثر‮ ‬يكشف سترهم أسرارهم أوجاعهم تناقضهم سقوطهم هزيمتهم‮ ‬يلهث وأنت خلفه وأنت وهو خلفهم تغوص في ذلك العالم الخاص وقبيل السطر الأخير للرواية تكتشف تندهش تفهم ما الذي قصده عمرو من ذلك العنوان الرومانسي لعالمه الواقعي الموجع الذي اختطفك بين وحشته ووجعه وأحداثه‮!‬

لا أعرف من أي خيوط نسج عمرو عبدالسميع تشابكات تلك الرواية،‮ ‬من أي خيوط نسج هذا العالم الموحش المتوحش الحميم الموجع،‮ ‬هذه الشخصيات الحقيقية الموجودة المهزومة الموجوعة الموجعة،‮ ‬هذا العالم الحقيقي الشعبي الواقعي الكريه الحبيب‮.. ‬نسجها من دموعنا من أبيات شعرنا من أرقنا وكوابيس ليلنا؟ نسجها من هزيمتنا وجروحنا المتقيحة ومراراتنا وخيبة أملنا؟ نسجها من أحلامنا التي اجهضتها الأنياب المتوحشة لزمن دخيل كريه حاصرنا وأوسعنا،‮ ‬ضرباً‮ ‬واحتل حياتنا واحتلنا؟ نسجها من دفء وحميمية بيوت تراصت بجوار بعضها تساندت بالهم تشاركت في المحن تقاسمت قلوبها المجروحة بطعنات‮ ‬غادرة لم تتوقعها فكادت البيوت تتهاوي تدفن تحتها بشرها الطيبين لكنها بقيت لم تسقط حتي الآن لكنها لا تسترهم ولا تحميهم؟

كتاب صغير صفحاته مليئة بالوجع‮.. ‬يسير أبطاله فوق شظايا بقايا مرآة‮ "‬مدغدغة‮" ‬مفتتة مكسورة كمثل واقعنا حياتنا،‮ ‬يسيرون بتعال‮ ‬احيانا بوجع باستسلام بتمرد احيانًا أخري،‮ ‬منهزمين منكسرين مستسلمين تماما لأقدارهم المخيفة التي وضعهم عمرو عبدالسميع علي بداية طرقها الموحشة راصدًا ما سيحدث لهم واصفا له دون لي لعنق الأحداث أو اصطناع لها‮ ‬يضعهم علي بداية الطرق الموحشة واثقا من شكل نهاياتهم المخيفة لكنه لا‮ ‬يملك لهم فرارًا ولا مهربًا بل‮ ‬يكاد‮ ‬يقول وسط سطوره وكلماته وعباراته‮ "‬ليتني أملك لهم ولنا مهربا أو مخرجا أو مفرا‮"!‬ من أين أتي عمرو بشظاياه المفتتة التي نسج كل أحداث الرواية من وجعها؟ هل كانت المرآة مكسورة فعلا دون أن‮ ‬ينتبه لعيبها مرضها ووهنها وضعفها أحد فيضربها عمرو عبدالسميع بقبضته فتهاوت شظاياها في وجوهنا قلوبنا،‮ ‬هل كانت المرآة مشروخة تنتظر لفحة هواء تمر عليها لتتبعثر فنفخ فيها عمرو برقة‮ ‬يعرف أن نفخته الحنونة ستتحول لإعصار عات‮ ‬يبعثر شظايا المرآة في حياتنا أنصالاً‮ ‬مشحوذة تجرحنا تؤلمنا تدمينا؟ هل كانت المرآة تبدو سليمة‮ ‬يحتلها الموت‮ "‬سرطان‮" ‬ينهشها تنتظر نظرة عميقة من عين مبصرة حقيقية حتي تتبعثر ذرات مشحوذة فلملمها عمرو بدقة وبراعة وصبر وتأن وتحفظ ووجل وأطلق شخصياته تسير فوقها دامية العينين والقلب ونسج من كل هذا لوحته الحقيقية الموحشة‮ "‬أنا والحبيب"؟

ما هذا العالم الغريب الذي كتب عنه‮! ‬هل هو عالم‮ ‬غريب‮! ‬ما هذا العالم الواقعي القبيح الذي وصفه‮! ‬هل اصطنعه من عندياته استحدث مفرداته من خيال إبداعه الوهمي؟ ما هذا العالم الموحش الذي نعيشه ووصفه في الرواية‮!‬

نعم الكثيرات هن‮ "‬إيمان‮" ‬التي تمردت علي أبويها ومبادئهما مدفوعة بإغواءات وإغراءات كسرتها وحطت من قدرها ـ أو هكذا ظنت ـ طيلة الوقت بين أناس لا‮ ‬يفهمون للمبادئ قيمة ولا للتاريخ معني ولا للاحترام ثمنًا،‮ ‬هي وسطهم‮ ‬غريبة شاذة بكامل ملابسها علي شاطئ العراة بعد أن اختصرت نفسها في حذاء بال وثوب قديم ونظرة سخرية لم تتحملها،‮ ‬فسايرتهم وتمردت علي أخلاقها علي نفسها وسقطت طوعا تحت أقدام الرقيع الفارغ‮ ‬هروبا من الآخر الذي أحبها ولم تدرك قيمة حبه في زمن لا‮ ‬يباع الحب فيه وليس لمشاعره ثمن سقطت تحت أقدام الرقيع هروبا من حالم‮ ‬ينتظر نبيا‮ ‬يحمل سيفا لا تشاركه حلمه فالسيف الذي سيأتي به النبي لن‮ ‬يمنحها حذاء جديدًا ولن‮ ‬يمنحها مكانة مرموقة وسط الفاسدين ولن‮ ‬يفرض احترامها علي الجميع،‮ ‬فسقطت باختيارها‮.. ‬سقطت وأسقطت معها حصونا ومبادئ وأسرة وحلمًا‮!‬

نعم الكثيرات هن‮ "‬كريمة‮" ‬التي كذبت وكذبت وأقنعت أهلها زورا أنها الفتاة الطيبة الصالحة وهي العاهرة بوعي وارادة،‮ ‬تحررت من أخلاق الأسرة تلك الأخلاق التي مكانها المتاحف وكتب التاريخ البالية ومنحت جسدها لكل من سيحقق لها جزءا من أحلامها الحقيرة في زمن تعتبر الحقارة والفساد والانحراف أجمل أوسمته،‮ ‬وانهي عمرو رحلة‮ "‬كريمة‮" ‬العاهرة في حضن الوزير العاهر الذي بني مجده علي ابتزاز حقير وفحش علني هي أحجار هرمه صعد علي رقاب الآخرين لمكانته العفنة العالية،‮ ‬أنهي عمرو رحلة العاهرة في حضن العاهر في فراشه في منزله فأضاع عقل الأستاذة المقهورة التي تزوجته قهرا ثمنا لصمته عن فضيحة‮ ‬يستحقها أخوها وزوجته لكن أخاها قدمها قربانا للعاهر لضمان صمته عن عهر زوجته وفضيحتها التي تستحقها،‮ ‬العاهر الذي صار وزيرًا‮ ‬يمارس كل عهره محتميًا بالسلطة بقدرته علي ابتزاز الآخرين فضحهم التلذذ بأكل لحومهم بأسنانه أمامهم بما فيهم زوجته التي تحملت وصمتت وقهرت ثم عجزت عن الاحتفاظ بعقلها أمام إصرار علي العهر وزهوه بالفجر مخترقا مجتاحا جميع مساحاتها الخاصة حتي‮ ‬غرفة نومها بصحبة كريمة العاهرة التي شاركت الوزير العاهر الإطاحة ببقية عقل الأستاذة المقهورة التي حاولت الفرار من العهر والعنف المحيطين بها وخلق عالمها الخاص بالتدريس والانكفاء علي نفسها فيه حتي هزمت هزيمتها الأخيرة في‮ ‬غرفة نومها فعادت لأصولها القديمة المتعالية وارتدت ثوب جدتها ولوحت بمروحتها في وجه الروائح النتنة التي حاصرتها وفضلت الجنون علي تعقلهم المنحط‮!‬

نعم الكثيرات هن‮ "‬رضية‮" ‬الفتاة الجامعية التي قهرتها الجامعة‮ "‬المجانية‮" ‬متحالفة مع الفقر وطين الحواري وزملائها افرازات الطبقات الفاسدة الثرية،‮ ‬فلم تجد أمامها لحماية نفسها ـ أو هكذا ظنت ـ إلا الماضي وشيوخه والحاضر وأمراءه،‮ ‬لم تجد إلا التطرف ملاذا للتعالي علي الآخرين الجهلة الكفرة،‮ ‬ملاذا للتعالي علي قهرهم لها وعدم انتباههم لوجودها،‮ ‬فكأنها قررت أن تتعالي عليهم ـ وهي خالية الوفاض من أي أسلحة للتعالي للانتقام ـ بالغيب في الماضي وشعاراته فترتدي الخمار وتخرج من مسابقات الجمال وعروض الأزياء وتسلم عقلها ثم قلبها وبدنها لآخر‮ ‬يقودها للرذيلة والانحراف تحت زيف التقوي والتدين وتكفير الآخرين الصامتين عجزا والمشاركين ببلادة والمحتفين فحشا بعهر الآخرين جميعهم كفرة،‮ ‬الأسرة الدولة،‮ ‬الأسرة التي لم تمنحها وضعا اجتماعيًا متميزًا مثل الآخرين وثراءً‮ ‬وفستانًا أنيقًا والدولة التي اتاحت للآخرين السطوة والهيبة والفساد والنفوذ ليقهروها هي وكل من علي شاكلتها،‮ ‬الكثيرات هن‮ "‬رضية‮" ‬التي ادخلها عمرو عبدالسميع في معركة طبقية تحت شعارات دينية واتاح لها سقوطًا سهلاً‮ ‬بضمير مستريح في‮ ‬غرفة الدعوة وعلي أرضها وفتح لها أحضان الشيخ أو الأمير وأتاح لها جسده ومكنه من جسدها تمسكا بأواصر الدين الفضيل في مواجهة مجتمع كفروه فعاثوا فسادا في الأرض تعاليا عن الفقر والثراء والعالم الزائل‮!‬

‮"‬عمرو عبدالسميع‮" ‬القاسي،‮ ‬أتي بهؤلاء الفتيات من أسر قبضت علي مبادئها كالجمر من النار في زمن‮ ‬يضع الجميع أيديهم في المياه المثلجة،‮ ‬أم خاضت معركة تعليمها مع مجتمع صعيدي متحفظ خاضت المعركة وكسبتها وتعلمت واشتغلت واختارت زوجها قهرا لتقاليد أسرتها ومجتمعها أثناء معسكر تثقيف سياسي في الحقبة الناصرية،‮ ‬هذه الأم المتمردة المتعلمة والأب صاحب المبادئ الذي آمن بالثورة واستمر‮ ‬يردد مبادئها،‮ ‬انجبا‮ "‬إيمان‮" ‬التي نامت باختيارها تحت أقدام الشباب الرقيع ابن العاهر،‮ ‬وانجبا‮ "‬رضية‮" ‬التي تعالت علي فقرها المزركش بالمبادئ المحترمة وفرت من عالمهم الكافر لاحضان الشيخ الحبيب‮! ‬يا لها قسوة من الكاتب الذي هزم الأبوين مرتين،‮ ‬مرة حين انقلبت الدنيا علي مبادئهما وهزمت أفكارهما وحوصرا بالفساد والكذب والزيف ومرة ثانية حين هزم أولادهما وأسقطهم في شباك المجتمع المتوحش كأنه‮ ‬يقول للأبوين السيدة المتمردة والأب صاحب المبادئ إن الهزيمة النكراء قدركما،‮! ‬ايالقسوة هذا المؤلف المتوجع بالألم‮! ‬لكنه‮ ‬يوجعهم لينبه الآخرين،‮ ‬لا ترتاحوا،‮ ‬لا تخلدوا للسكون،‮ ‬لا تتوقعوا انتصارات وهمية فالمبادئ وحدها لا تكفي لإنقاذكم أو إنقاذ أولادكم‮! ‬افيقوا‮! ‬إنه‮ ‬ينبه الآخرين بالسكين المخضب بدماء الضحايا التي هزمتها الأيام،‮ ‬يعلق الجثث علي باب زويلة كي‮ ‬ينتبه الجميع لقدر الخطر المحدق بهم جميعًا‮!‬

‮ "‬عمرو عبدالسميع‮" ‬القاسي،‮ ‬قتل‮ "‬اجضية‮" ‬بيد زوجها،‮ ‬قتلها حين قررت الدفاع عن شرف ابنتها‮ "‬كريمة العاهرة‮" ‬والانتقام من الوزير الذي شاركها جريمتها الأخلاقية المنحطة واشتري أخلاقها وشرفها اللذين باعتهما كريمة بلا ثمن‮! ‬قتلها بيد زوجها الذي كان محاربا ثم سرقت ثمار تضحياته وهو وكل المحاربين الشرفاء وأكلها الوزير العاهر وطبقته ومريدوه في بطونهم الواسعة النتنة،‮ ‬قتلها بيد زوجها‮ "‬دياب‮" ‬المحارب الذي قنع بضرب السلامات ومنح التحايا لمن لا‮ ‬يستحقها،‮ ‬فكأن‮ "‬عمرو‮" ‬قتل الزوجين مائة مرة،‮ ‬قتل الزوجة التي حاولت الانتقام لشرف ابنتها كان‮ ‬يقول لنا إن ذلك السقوط الإرادي من كريمة ليس له ثمن ولا‮ ‬يجوز معاقبة من شاركها السقوط لأنها مسئولة عنه وقبلته وسعت إليه،‮ ‬فلا‮ ‬يجوز للأم الانتقام لشرف باعته صاحبته بكامل وعيها وارادتها،‮ ‬قتل الزوجة برصاصة الزوج الذي سعي لأكل العيش في خدم الوزير‮ ‬يري قاذوراته وزيفه وفساده وانحرافه لكنه‮ ‬يدافع عنه ويحميه،‮ ‬قتل‮ "‬دياب‮" ‬المحارب انه استبدل الدفاع عن الوطن ذلك الدفاع النبيل بالدفاع عن الفاسدين القذرين ممن سرقوا تضحياته وحكموا البلد وعاثوا فيها فسادا استبدل الدفاع النبيل بالمهام القذرة التي وصلت قمته قذارتها وانحطاطها بقتل أم لشابة شاركها الوزير العاهر سقوطها،‮ ‬فقتل تلك الأم وأي أم أخري مكانها تدافع عن شرف ابنتها وظيفته،‮ ‬قتل عمرو دياب حين فتح عينيه علي طبيعة وظيفته الجديدة وهي الدفاع عن العهر ونفوذه وسلطته وفساده،‮ ‬وحتي تكتمل المأساة و‮ "‬تخرق‮" ‬دلالاتها عين الجميع،‮ ‬يختار عمرو عبدالسميع‮ "‬اجضية‮" ‬الأم الصعيدية زوجة‮ "‬دياب‮" ‬المحارب القديم ويقذفها في طريقه ليقتلها برصاصات وظيفته وهي زوجته وحبيبته وكانت تدافع عن شرف ابنته دفاعا عن رجل عاهر بلا أخلاق استباح جسد ابنته واعتقل ابنه ووأد حريته ولفق له الاتهامات،‮ ‬وهكذا قال عمرو عبدالسميع كلمته الأخيرة في سطر روايته الأخير،‮ ‬إن تلك الأسرة كلها المحارب القديم والصعيدية التي نورت عقلها والابنة التي انحرفت بإرادتها والابن الذي حلم بالنبي الذي‮ ‬يحمل سيفا ثم قهر وضاع وغيب خلف جدران لا تعرف شمسا ولا بارقة أمل،‮ ‬كل هذه الأسرة حطمها ودمرها وأضاعها وهزمها ذلك الرجل الحقير الذي قبل المحارب الدفاع عنه وقتل الأبرياء لصالحه،‮ ‬فلا تعرف في النهاية من قتل من؟؟؟؟؟؟‮!!!! ‬ألم أقل لكم إنه قاسي عمرو عبدالسميع‮!!‬

هاهو‮ "‬الوزير‮" ‬في رواية عمرو عبدالسميع وعالمه الواقعي الموحش رجل فاسد عاهر مبتز صعد السلم الاجتماعي والسياسي حتي مقعد الوزارة مدعوما بقدرته في الابتزاز والخوض في أعراض النساء وقهر زوجته وممارسة الفحش‮!! ‬وما هو‮ "‬رئيس حزب الحرية المعارض‮" ‬ذلك الرجل الذي كان ينتمي لعصر قديم وعائلة عريقة ثم تزوج من سيدة مارست حريتها لحد العهر تنتقم في فراشها من رجل لم تعد تقوي الانتقام منه في الحياة وعرف فضيحتها وعهرها وصمت خوفا من فضيحة تبعثر آخر وجوده الاجتماعي وتلوث اسم أسرته التي‮ ‬غابت عنها الشمس والجاه ولم يعد متبقيا لها إلا اسم تهدده الفضيحة بالمحو والزوال،‮ ‬هذا المعارض للحكومة رئيس حزب الحرية قابل الرجل الذي عاشر زوجته واستباح جسدها،‮ ‬قابله واتفقا علي تمويل‮ ‬أجنبي لنشاط حقوق الإنسان،‮ ‬فكان ذلك الأمريكي ـ بتواطؤ وصمت الحكومة والمعارضة ـ استباح جسد الزوجة وشرف الرجل استباح أفكار الوطن وشرف مثقفيه‮!!‬

هذه هي الحكومة وهذه هي المعارضة في رواية‮ "‬أنا والحبيب‮" ‬كما يراهم المؤلف‮ "‬عمرو عبدالسميع‮" ‬الثائر المتمرد‮ ‬الحالم الموجوع بالهزيمة بسقوط الشعارات بتخاذل الجميع وانهيارهم الطوعي،‮ ‬إنه لايدين أحدًا بعينه،‮ ‬إنه يدين الجميع،‮ ‬يدينهم وفي الوقت نفسه يتفهم مبررات السقوط والهزيمة،‮ ‬لكنه يدين الزمن الذي‮ ‬تبدل ويتمني ـ لكنه لايثق كثيرا ـ يتمني أن تنصلح الاحوال لذا يصرخ‮ "‬أفيقوا‮" ‬لكنه لايثق في نتيجة صرخاته لكنه لايصمت فالصمت هو الانهيار الأخير الذي يرفضه ويخاف منه ويتمرد عليه‮!!‬

في نفس الوقت يحب‮ "‬عمرو عبدالسميع‮" ‬الناس ويثق فيهم ويري ما يملكونه من كنوز وإيجابيات،‮ ‬يحبهم،‮ ‬الناس في الحي الشعبي،‮ ‬المجاملون المتفانون المتعاونون،‮ ‬إنهم يواجهون كل ما يحدث بالتكاتف،‮ ‬حين مرضت‮ "‬حسنات‮" ‬خدموها وتكاتفوا في حبها والسؤال‮ ‬عنها وتقديم كل ما يمكنهم تقديمه وحين ماتت شيعوا جنازتها وأخذوا عزاءها وطبخت نساؤهم وبذل الجهد رجالهم،‮ ‬جميعهم تكاتفوا،‮ ‬عمرو يحب الناس ويثق فيهم،‮ ‬يؤمن بقدراتهم الحقيقية في العطاء،‮ ‬أنهم بشر حقيقون في مواجهة زيف أنهم فقراء لكنهم حقيقيون يطهون أرجل الدجاج التي يرميها الأغنياء لكن هذا لايعيبهم لم يفقدهم روحهم،‮ ‬إنهم بشر حقيقيون أصلاء بلا ثقافة بلا شعارات بلا ضجيج،‮ ‬إنهم يختطفون لقمة عيشهم من فم الاسد لكنهم حقيقيون،‮ ‬يؤمن بهم عمرو ويكاد يتمني يلقي نفسه ويلقينا في أحضانهم كأنهم هم من سيصالحوننا علي الحياة الموحشة،‮ ‬يؤمن بهم ويصدقهم لكن هل يؤمن بقوتهم لانقاذنا‮!!! ‬أشك‮!!!‬

‮"‬أنا والحبيب‮" ‬رواية لاتكشف عن عالم تحكي عنه فحسب بل هي بالأساس تكشف عن انسان خلق هذا العالم ونسج‮ ‬أحداثه،‮ ‬إنسان كنت أظنه بارعًا متفوقًا ينتظر حظه السعيد الذي سيأتي حتما فإذ به يكشف عن حالته الحقيقية عن هزيمته وهزيمتنا التي قتلت حظنا السعيد وتركت لنا القدر الموحش يلهو بنا وبحياتنا وأحلامنا يسطر هزائمنا الواحدة تلو الأخري ونحن قابعون ساكنون نرقب خطواته الباطشة‮!! ‬إنها رواية كشفت عن مؤلف أفصح عن ألمه تحاصره الهزيمة لكنه لايستسلم لها بل يقاومها بكلمات أحد من الانصال يقاومها بأسياخ كوتها النيران وكوتنا فيغرزها في جلودنا السميكة أفيقوا،‮ ‬تكاتفوا وأفيقوا‮!!! ‬إنه يقاوم الهزيمة الحتمية ليس بالفرار الفردي بل‮ ‬باستنهاض الروح الجماعية بإيلامها بشدة علها تفيق أو تكتب شهادة موتها‮!!! ‬فكل ما جمعه‮ "‬عمرو‮" ‬في روايته من شخصيات وأحداث وأوجاع وهزائم وحقائق وأحلام مجهضة وبشر ضائعين وحلم تبدد وزيف تحكم كل ما جمعه عمرو ونعرفه ليس بالضرورة نعرفه بدقة لكننا نعرفه شاهدناه من قبل،‮ ‬لكن عمرو بدأب الصنايعي الاسطي جمع حبات الالم في عقد واحد وعلقه في رقابنا كأنه يقول لايكفيكم ماتعرفونه مبعثرا لا يكفيكم ما تشاهدونه مجزءا،‮ ‬هذه هي الحقيقة الموجعة التي تهربون منها تنكرونها تتجاهلونها إنه العقد الذي يتصوره البعض يزين جيده ويراه البعض يخنق أنفاسه،‮ ‬هذه هي الحقيقة متكاملة الصورة كما أراها وترونها فأفيقوا‮!! ‬نعم أنه يصرح في البرية وفي الأصماء‮ ‬أفيقوا،‮ ‬هذه هي الحقيقة التي تعيشونها،‮ ‬لاتنكروها بعد اليوم لن تقووا علي تجاهلها،‮ ‬جمع حبات الألم في عقد واحد أبي وأبيك أمك وأمي أختك وبنت الجيران ابنك وابن أخيك صديقته زميلتك رئيسك جميعهم هزموا جميعهم انكسروا جميعها باعوا جميعهم انحرفوا تحت كل الشعارات وكل اللافتات جميعهم انهزموا بصرف النظر عن سبب الهزيمة فالهزيمة،‮ ‬قدرهم جميعنا وقدرنا،‮ ‬جميعهم انهاروا جميعهم سقطوا بصرف النظر عن المبررات والحجج والأسانيد التي برر كل منهم لنفسه ذلك السقوط،‮ ‬فالسقوط قدرهم جميعا وقدرنا،‮ ‬إنه جمع حبات الألم في عقد واحد وفقأ عيوننا،‮ ‬لكنه لم‮ ‬يكتب مرثية ولم يفتح مآتم ولم يتقبل العزاء،‮ ‬بل وقف يصرخ أفيقوا،‮ ‬جمع كل الألم في لحظة مكثفة كأنه أوصل أسلاك الضغط العالي في قلوبكم يكهربكم يوجعكم ينبهكم أفيقوا‮!!!‬

إنها الرواية التي كشفت عن‮ "‬المؤلف‮" ‬الثائر المهزوم المحاصر بالهم الزيف‮ ‬بالفحش بالفجاجة،‮ ‬لكن كل هذا لم يخرسه،‮ ‬ربما يراه الآخرون‮ ‬غير ما يري نفسه التي اعتاد تقديمها في صورة المحاضر الأنيق المثقف المتعالي،‮ ‬لكن روايته كشفت عن آخر‮ ‬غير ما يظهر عن ثائر مهزوم موجوع متألم يعنيه الأمر أكثر مما يظهر يهتم بما يحدث حوله أكثر مما يقول،‮ ‬إنه ابن البلد الغارق في طينها حواريها ابن شعبها المتواري بتلال القمامة لايظهر من معدنه الاصيل‮ ‬شيء حتي ظن‮ ‬البلهاء أن القمامة أغرقته وقتلت روحه الأصيلة،‮ ‬إنه ابن البلد‮ ‬الشعبي الثائر المغروس في طين الأرض ذراته ترابها معجونة بدمع الأعين وأسي الليل ووجعه الدائم،‮ ‬غريب هذا الـ"عمرو عبدالسميع‮" ‬الدكتور المثقف‮ ‬الصحفي المذيع البارع المخادع،‮ ‬الذي نجح في أن يخدعني وكنت أظنني أفهم في‮ ‬الناس وأميزهم،‮ ‬فالوهج المنصهر ألما في نفسه لا يظهر أبداً‮ ‬فوق السطح،‮ ‬السخونة البركانية المتفجرة داخل نفسه يغطيها ببراعة فيبدو كأنه حقا لايهتم إلا كمثقف متعال يري الحياة من خلف الألواح الزجاجية المقاومة للرصاص،‮ ‬خدعني وغاضبة أنا من نفسي أنني لم أفهم أغواره‮ ‬دروبها ومسالكها،‮ ‬لكن روايته كشفته كشفت حقيقته معدنه الأصيل روحه الثائرة كشفت وجعه ألمه ضعفه كشفت اصراره قوته إلحاحه تمرده ثورته،‮ ‬روايته كشفته بوهجها الخاص جداً،‮ ‬كأنه كان يقبع في الظلام فلا يراه أحد فألقت عليه الرواية بقعة ضوء،‮ ‬أو كأنه كان يجلس تحت الأضواء المبهرة فأعمت عن حقيقته العيون فجاءت الرواية وقالت إنه يري ويهتم ويقول لكن بطريقته الخاصة جداً‮!!‬

‮"‬أنا والحبيب‮" ‬هل هذا اسم الكراسات التي كتب فيها‮ "‬أسامة‮" ‬البطل الحالم حبه لإيمان‮!! ‬أم أن هذا عنوان العلاقة الموجعة بين عمرو عبدالسميع والوطن الذي يحبه لكنه يوجعه‮!! ‬كدت أخدع ثانية وأصدق أن عنوان الرواية هو عنوان كراسات‮ "‬أسامة‮" ‬لكني انتبهت أخيراً‮ ‬لبراعة عمرو وقدرته علي المراوغة فانتهيت‮ ‬إلي أن‮ "‬أنا والحبيب‮" ‬هو عنوان الوجع الذي يعيشه عمرو عبدالسميع ونعيشه جميعا‮!! ‬فكل حزننا ووجعنا وهمنا وهزيمتنا وتمردنا وثورتنا واحباطنا واكتئاباتنا سببها‮ "‬أنا والحبيب‮"!!!‬

‮"‬أنا والحبيب‮" ‬رواية من نسيج خاص جداً‮ ‬جداً،‮ ‬موجع لكنه في الحقيقة يطيب الجراح مهزوم لكنه يصرخ بالمقاومة والتمرد‮!! ‬يبدو وكأنه عالم قبيح لكنه حياتنا التي نعيشها وليست كلها قبحا‮!! ‬انها دانتيلا خشنة‮!! ‬منسوجة بدقة بعناية ببراعة باهتمام منسوجة من دموعنا وأوجاعنا وألمنا واحباطنا‮!! ‬منسوجة من شظايا المرايا المبعثرة التي تظهر صورتنا من انصال‮ ‬مكسورة في الجلود السميكة من قبول خاضع وهزيمة نكراء‮! ‬منسوجة من عالم حقيقي موحش متوحش لكنها لاتحزنك بل تصدمك تقهرك توقظ في روحك الرغبة علي المقاومة والتمرد وعدم الاستسلام لكل هؤلاء العواهر الذين يتصورون أنهم انتصروا علينا وانتهي الأمر‮!!!‬

‮"‬أنا والحبيب‮" ‬دانتيلا خشنة‮ ‬نسجت بيد‮ ‬غزال نساج فنان بارع لن يقوي ثانية علي مواراة نفسه وخداع الآخرين فقد كشفت روايته عن وجعه وهمه وحقيقته‮!!‬

نشرت هذه المقاله فيالعدد 1354 الخميس - 10 ديسمبر 2009
http://www.rosaonline.net/Daily/News.asp?id=33219